فرقة ناس الغيوان تعزف في أحد أزقة الدار البيضاء خلال السبعينات، تجسد التراث الموسيقي المغربي.

ناس الغيوان: من وجع الشارع المغربي إلى أساطير غنائية لا تُنسى

في زوايا الحي المحمدي العريق بالدار البيضاء، لم يكن أحد يتوقع أن تنبعث من أزقته الضيقة ثورة موسيقية تهز الوجدان المغربي والعربي. هناك، حيث تختلط رائحة الخبز بالدخان والحكايات الشعبية، انطلقت شرارة ناس الغيوان – الفرقة التي لم تُغنِّ فقط، بل صرخت، احتجّت، وأحبت باسم الشعب.

في زمن كانت فيه الكلمات مراقَبة، اختار هؤلاء الشبان المهمشون أن يكسّروا الصمت، ويحملوا همّ الناس في دفّ وعود وأغنية صادقة. ما بدأ في أواخر الستينات كمحاولة للهروب من واقع قاسٍ، تحوّل إلى حركة فنية هزت الجدران، وأيقظت الضمائر، ورسمت ملامح هوية موسيقية جديدة من رحم المعاناة.

من الزنقة إلى الأسطورة: البداية من رماد الشارع

ما الذي يجمع بين بوجميع، العربي باطما، عمر السيد، عبد العزيز الطاهري، ومحمود السعدي؟ الجواب: الحلم، الألم، والإيمان بأن الموسيقى يمكنها أن تُحرّر.

في عام 1970، رأت مجموعة ناس الغيوان النور، كصرخة فنية تمردت على كل ما هو تقليدي، واختارت أن تكتب بلغة الشارع، وتغني بصوت الطبقات المنسية. لم تكن مجرد فرقة، بل كانت بمثابة حركة مقاومة ثقافية ترتدي الجلابية وتعزف على “الهجهوج”.

التراث في مواجهة الحداثة: خلطة سحرية هزت الأذواق

حين كانت الأغنية المغربية تنحو نحو الرقة والعاطفة، قلبت ناس الغيوان الموازين: مزجت الشعر الشعبي بالإيقاع الإفريقي، وأضافت إليه الوجع الاجتماعي، فانبثق صوت فريد راسخ في الذاكرة.

العنصرالقيمةالنتيجة
الغناء باللهجة المغربيةالقرب من الناستعبير صادق عن الهمّ اليومي
الآلات الشعبية (الهجهوج، البندير)الأصالةموسيقى مغربية خالصة
التوزيع الحديث والكلمات الناريةالثورةجيل جديد من الأغنية الملتزمة

كلمات تحفر في الذاكرة.. وأغانٍ لا تموت

🎵 “مهمومة”

أنشودة الحزن النبيل والقلق الوجودي. الأغنية التي عبّرت عن كل قلب بسيط يتألم بصمت، لكنها لم تنسَ أن تزرع بذور الأمل في نهاية كل بيت.

🙌 “الله يا مولانا”

دعاء غنائي يحلق بالروح عالياً، فيه خشوع المؤمن، وحزن الكادح، وكرامة المظلوم. لحظة روحانية نادرة في تاريخ الموسيقى العربية.

❤️ “سينيا”

في الحقيقة، إنها أكثر من مجرد أغنية، إنها حكاية حب مغربية بطعم الحنين، فيها دفء، شوق، ووجع رحيل. حب الأرض، حب الوطن، حب الإنسان.

أبعد من الفن: ناس الغيوان كصوت للناس وللأزمنة

✊ ثورة ثقافية ضد الصمت

بلا شك، ناس الغيوان لم تغني فقط، بل فضحت، وعاتبت، رفعت صوتها بالأسئلة التي تردّد الجميع في نطقها، وكسرت حاجز الصمت دون تردد. غنّت للمقهور، للعامل، للمهمّش، للذي لا يجد لغة للتعبير عن وجعه. فصارت مرآة لواقع استحالت روايته إلا بالدموع أو في الأغاني.

🌍 من المغرب إلى كل الوطن العربي

في السبعينات، أصبحت ناس الغيوان مثل فرقة الروح الثائرة في كل بيت عربي. في الواقع، كانت تتردد كلماتها في شوارع بيروت، وأحياء الجزائر، ومقاهي بغداد. كانت للفرقة لغة واحدة: لغة الصدق.

الخاتمة: أغنية لا تسكت.. وتراث لا يصدأ

في الختام، لم تُشكّل “ناس الغيوان” مجرد تجربة موسيقية عابرة، بل صنعت حالة وعي جماعية متفردة. فقد مزجت، في الوقت نفسه، بين الحنين إلى الجذور والتمرد على القوالب الجاهزة، وبين الجرأة في النقد والوفاء لروح الشعب. في كل نغمة تسكن قصة، وفي كل بيت تتردد حكاية، أما أغانيهم فكانت مرآة صادقة لوطن يحاول فهم ذاته واستعادة صوته. في الحقيقة، لقد أعادوا تعريف الفن كأداة مقاومة، وليس مجرد وسيلة ترفيه.

واليوم، وبعد مرور عقود طويلة، لا تزال ألحانهم تنبض بالحياة وتتردد على ألسنة الأجيال الجديدة كما لو وليدة الأمس. فبينما تغيّرت الموضات وتبدّلت الأذواق، ظلّت أغانيهم ثابتة لأنها لم توجد لإرضاء السوق، بل جاءت نابعة من نبض الشارع وصدق الإحساس. إنهم غنّوا للحقيقة، لا للشهرة؛ ولذلك، سيبقى أثرهم ممتدًا، كما تبقى النار متقدة تحت رماد الذاكرة.