لوحة رمزية لرجل يسير في طريقٍ تجريدي بألوان ذهبية وزرقاء، تجسد رحلة البحث عن المعنى في عالم الحداثة وما بعدها.

ما وراء الحداثة: المسيري ورحلة البحث عن المعنى المفقود

يقف المفكر المصري عبد الوهاب المسيري كأحد أبرز النقاد العرب الذين تصدوا لمشروع الحداثة الغربية بعمق وشمولية. لم يكن نقده مجرد رفض سطحي أو رد فعل عاطفي، بل كان مشروعاً فكرياً متكاملاً يستند إلى رؤية معرفية دقيقة وفهم عميق للتحولات الفلسفية التي شهدها العالم الغربي منذ عصر النهضة. تجاوز المسيري النقد الجزئي إلى بناء نسق معرفي بديل يقوم على إعادة الاعتبار للإنسان وللبعد المتجاوز في الوجود، مقدماً بذلك إسهاماً فكرياً لا يزال يثير النقاش ويفتح آفاقاً جديدة للتفكير.

البدايات الفكرية ورحلة التكوين المعرفي

تشكلت رؤية المسيري النقدية عبر مسار طويل من البحث والتأمل. درس الأدب الإنجليزي والأمريكي في جامعات مصر والولايات المتحدة، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة رَتْجَرْز الأمريكية. عاش سنوات طويلة في الغرب، مما أتاح له فرصة نادرة لمعايشة الحداثة الغربية من الداخل، ليس كمتفرج خارجي بل كباحث منغمس في تفاصيل المجتمع والفكر الغربيين. هذه التجربة المباشرة أكسبته نظرة ثاقبة لم تكن متاحة للكثير من المفكرين العرب الذين تناولوا الحداثة من بعيد.

خلال إقامته في أمريكا، بدأ المسيري يلاحظ التناقضات العميقة في المشروع الحداثي. رأى كيف تحولت القيم الإنسانية التي رفعتها الحداثة شعاراً لها إلى أدوات للهيمنة والسيطرة، وكيف أدى التطور التقني والعلمي إلى تشييء الإنسان وتحويله إلى مجرد كائن استهلاكي. لم تكن هذه مجرد ملاحظات عابرة، بل كانت بذور مشروع فكري ضخم سيشغله لعقود قادمة.

النموذج المعرفي كأداة تحليلية مركزية

الحداثة: النموذج المعرفي

يعتبر مفهوم النموذج المعرفي حجر الأساس في منهجية المسيري التحليلية. استوحى هذا المفهوم من فلسفة العلم الغربية، خاصة من أعمال توماس كون، لكنه طوره وأعاد صياغته ليصبح أداة أكثر شمولاً وعمقاً. يشير النموذج المعرفي عند المسيري إلى تلك المنظومة الكلية من المسلمات والافتراضات الأساسية التي تشكل إطاراً مرجعياً يحدد كيفية إدراك الواقع وتفسيره.

تكمن أهمية هذا المفهوم في قدرته على كشف البنى العميقة التي تتحكم في أنماط التفكير والسلوك. فبدلاً من الانشغال بالظواهر السطحية، ينقب المسيري عن الجذور المعرفية التي تنتج هذه الظواهر. عندما نفهم النموذج المعرفي الذي يحكم حضارة ما، نستطيع أن نفهم منطقها الداخلي وتوجهاتها وحتى تناقضاتها. هذا المنهج يتيح رؤية أشمل وأعمق من التحليلات الجزئية التي تركز على مظاهر منفصلة دون ربطها بسياقها المعرفي الأوسع.

الحلولية الكامنة كجذر للأزمة الحداثية

يحدد المسيري الحلولية الكامنة كالنموذج المعرفي الأساسي الذي تأسست عليه الحداثة الغربية. تعني الحلولية الكامنة أن الإله أو المطلق يحل في الطبيعة والمادة ويصبح جزءاً لا يتجزأ منها، بحيث لا يعود هناك تمييز بين الخالق والمخلوق، بين المتجاوز والكامن. هذه الرؤية تختلف جذرياً عن التوحيد الذي يؤكد على المسافة بين الله والعالم، وعلى تجاوز الخالق لخلقه.

نتج عن هذه الرؤية الحلولية تحول عميق في فهم الإنسان والطبيعة. إذا كان المطلق كامناً في المادة، فإن المادة ذاتها تصبح مطلقة، ويصبح الإنسان مجرد جزء من هذه المنظومة المادية المغلقة. تفقد القيم الأخلاقية والروحية مرجعيتها المتجاوزة، وتصبح نسبية تماماً أو مجرد انعكاس لظروف مادية. هذا التحول المعرفي يفسر الكثير من ظواهر الحداثة: من العلمانية الشاملة إلى الاختزالية المادية، ومن تشييء الإنسان إلى أزمة المعنى في المجتمعات الحديثة.

المادية وتحويل الإنسان إلى موضوع

تمثل المادية أحد التجليات الأساسية للنموذج المعرفي الحداثي عند المسيري. لا يقصد بالمادية هنا مجرد التركيز على الجوانب الاقتصادية أو الاستهلاكية، بل يشير إلى رؤية فلسفية شاملة تختزل الواقع كله في بعده المادي. وفق هذه الرؤية، يصبح الإنسان مجرد كائن بيولوجي تحركه غرائزه ومصالحه المادية، دون أي بعد روحي أو متجاوز.

يتتبع المسيري تطور هذه الرؤية المادية عبر تاريخ الفكر الغربي الحديث. بدأت مع فرانسيس بيكون الذي دعا إلى السيطرة على الطبيعة واستغلالها لخدمة الإنسان، ثم تعمقت مع توماس هوبز الذي اختزل السلوك الإنساني في مجرد بحث عن المنفعة والقوة، وصولاً إلى الماركسية التي ردت كل الظواهر الاجتماعية والثقافية إلى البنية الاقتصادية. هذا الاختزال المادي أفقد الإنسان خصوصيته وكرامته، وحوله إلى مجرد موضوع قابل للدراسة والتلاعب والاستغلال.

انعكست هذه النظرة المادية على جميع مناحي الحياة في المجتمعات الحديثة. تحول التعليم إلى مجرد تدريب لإنتاج قوة عمل، وأصبحت العلاقات الإنسانية تقاس بمعايير النفعية، وتراجعت القيم الروحية والجمالية أمام منطق السوق والاستهلاك. حتى الطبيعة نفسها تحولت إلى مجرد مادة خام للاستغلال، مما أدى إلى الأزمة البيئية التي نعيشها اليوم.

العلمانية الشاملة كإطار للهيمنة

الحداثة: العلمانية الشاملة

يميز المسيري بدقة بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. العلمانية الجزئية تعني فصل الدين عن الدولة كإجراء عملي لتنظيم الشأن العام، دون أن يستتبع ذلك بالضرورة إقصاء القيم الدينية من الحياة العامة أو من وعي الأفراد. أما العلمانية الشاملة، فهي رؤية كلية تسعى لإقصاء أي مرجعية متجاوزة من جميع جوانب الحياة، وإخضاع كل شيء للمعايير المادية والنسبية.

تستند العلمانية الشاملة إلى النموذج المعرفي الحلولي الذي يرفض أي تجاوز للطبيعة المادية. بموجب هذه الرؤية، لا يوجد معنى أو قيمة خارج الإطار المادي المحسوس، ويصبح العقل البشري هو المرجعية الوحيدة لتحديد الحقيقة والخير. لكن هذا العقل نفسه، كونه جزءاً من المنظومة المادية، يفقد أي أساس متين للحكم الأخلاقي أو المعرفي، مما يؤدي في النهاية إلى نسبية شاملة وإلى أزمة في المعنى والقيم.

يرى المسيري أن العلمانية الشاملة لم تحرر الإنسان كما وعدت، بل خلقت أشكالاً جديدة من الهيمنة. عندما يفقد الإنسان مرجعيته المتجاوزة، يصبح أكثر عرضة للخضوع لسلطات دنيوية مطلقة: سلطة الدولة، سلطة السوق، سلطة التكنولوجيا. هذه السلطات تملأ الفراغ الذي تركه غياب المطلق، لكنها تفعل ذلك بطريقة قمعية تنتهك كرامة الإنسان وحريته.

نقد الحداثة والتحيزات المعرفية الغربية

يتجاوز نقد المسيري للحداثة الأحكام العامة إلى تفكيك دقيق للتحيزات المعرفية الكامنة في الخطاب الحداثي. يكشف كيف أن الحداثة، رغم ادعائها الكونية والموضوعية، تحمل في طياتها تحيزات ثقافية ومعرفية خاصة بالتجربة الأوروبية. ما يقدم على أنه تقدم إنساني عام هو في الواقع تعميم لتجربة تاريخية محددة لا يمكن فرضها على جميع الثقافات دون إحداث تشوهات عميقة.

تظهر هذه التحيزات في العديد من المجالات. ففي الاقتصاد، يفترض النموذج الرأسمالي أن الإنسان كائن نفعي بحت يسعى لتعظيم مصلحته الفردية، متجاهلاً قيماً أخرى كالتكافل والتضامن. في السياسة، تقدم الديمقراطية الليبرالية كنموذج وحيد للحكم الرشيد، رغم أنها نشأت في سياقات تاريخية وثقافية خاصة. في الأخلاق، تسود النسبية والنفعية، مع تهميش المنظومات الأخلاقية المستندة إلى مرجعيات متجاوزة.

يؤكد المسيري أن هذه التحيزات ليست مجرد أخطاء فكرية بل لها تبعات عملية خطيرة. فقد شرعت الاستعمار باسم نشر الحضارة والتقدم، وبررت الهيمنة الاقتصادية بمنطق السوق الحر، ودمرت ثقافات بأكملها باسم التحديث. نقد الحداثة عند المسيري ليس رفضاً للتطور أو الإصلاح، بل هو دعوة لبناء حداثات بديلة تحترم التنوع الإنساني وتنطلق من سياقات ثقافية متعددة.

الرؤية الإنسانية كبديل معرفي

في مواجهة النموذج المعرفي الحداثي الاختزالي، يقترح المسيري رؤية إنسانية شاملة تستعيد للإنسان مركزيته وكرامته. تقوم هذه الرؤية على الاعتراف بالبعد المتجاوز في الوجود الإنساني، أي أن الإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي أو اقتصادي، بل كائن يحمل بعداً روحياً وأخلاقياً يتجاوز الحتميات المادية.

ترتكز هذه الرؤية الإنسانية على عدة مبادئ أساسية. أولاً، الاعتراف بثنائية الإنسان والطبيعة، حيث يتميز الإنسان عن بقية الموجودات بقدرته على الاختيار الحر والفعل الأخلاقي. ثانياً، رفض الاختزالية في كل صورها، سواء كانت مادية أو بيولوجية أو اقتصادية، والتأكيد على تعقد الظاهرة الإنسانية وتعدد أبعادها. ثالثاً، إعادة الاعتبار للقيم والمبادئ الأخلاقية المستندة إلى مرجعية متجاوزة، مما يوفر أساساً ثابتاً للحكم الأخلاقي ويحمي من النسبية الشاملة.

لا تعني هذه الرؤية الإنسانية رفضاً للعلم أو التقدم التقني، بل تدعو إلى إعادة توجيههما لخدمة الإنسان الكامل لا اختزاله. العلم يجب أن يظل وسيلة لفهم العالم وتحسين حياة البشر، لا أن يتحول إلى أيديولوجية شمولية تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة. التقنية ينبغي أن تكون في خدمة القيم الإنسانية، لا أن تصبح هي نفسها مصدراً للقيم ومعياراً للنجاح.

تطبيقات النقد المسيري في قضايا معاصرة

تمتد أهمية نقد المسيري للحداثة إلى فهم العديد من القضايا المعاصرة. في مجال العولمة، يساعدنا إطاره التحليلي على رؤية كيف تمثل العولمة امتداداً للنموذج المعرفي الحداثي، حيث تسعى لتعميم نمط واحد من الحياة والقيم على العالم بأسره، متجاهلة التنوع الثقافي والإنساني. العولمة ليست مجرد عملية اقتصادية محايدة، بل هي مشروع معرفي يحمل تحيزات ويخدم مصالح معينة.

في مجال البيوإتيقا والتقنيات الحيوية، يكشف تحليل المسيري عن المخاطر الكامنة في النظرة المادية للإنسان. عندما يختزل الإنسان إلى مجموعة من الجينات والخلايا، يصبح مجرد موضوع للتلاعب والتصميم، مما يفتح الباب أمام انتهاكات خطيرة للكرامة الإنسانية. الهندسة الوراثية والاستنساخ والذكاء الاصطناعي، رغم إمكاناتها الهائلة، تحمل في طياتها مخاطر جسيمة إذا لم توجه بمنظومة قيمية تحترم الإنسان ككائن متجاوز.

في السياق العربي والإسلامي، يقدم إطار المسيري أدوات قيمة لنقد التغريب والدفاع عن الهوية الثقافية دون الوقوع في الانغلاق أو الرجعية. يميز بين التحديث كعملية ضرورية لتطوير المجتمع، والتغريب كاستيراد أعمى للنماذج الغربية مع ما تحمله من تحيزات معرفية. يدعو إلى حداثة بديلة تنبع من السياق الحضاري العربي الإسلامي، حداثة تحترم القيم والمرجعيات الخاصة مع الانفتاح على الإنجازات الإنسانية العامة.

الموسوعية والمنهج الشامل

تتجلى عبقرية المسيري في موسوعيته وقدرته على الربط بين حقول معرفية متنوعة. موسوعته الضخمة عن اليهود واليهودية والصهيونية، التي استغرق إعدادها أكثر من عشرين عاماً، تعكس هذا المنهج الشامل. لم يكتف بالتحليل التاريخي أو السياسي، بل قدم دراسة معرفية عميقة تربط الظاهرة الصهيونية بالنموذج المعرفي الغربي الحديث، كاشفاً عن الجذور الفلسفية والثقافية لهذه الحركة.

يؤمن المسيري بأن الظواهر المعقدة لا يمكن فهمها إلا من خلال منهج كلي يجمع بين التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والأدب. هذا المنهج يتطلب صبراً وجهداً هائلاً، لكنه يقدم نتائج أعمق وأشمل من التحليلات الجزئية. عندما ندرس ظاهرة ما، لا نكتفي بوصفها من الخارج، بل نحاول فهم بنيتها العميقة والنموذج المعرفي الذي يحكمها والسياق التاريخي الذي أنتجها.

هذا المنهج الموسوعي يجعل أعمال المسيري مصدراً غنياً للباحثين في مختلف المجالات. فالفيلسوف يجد فيها تحليلات معرفية عميقة، والمؤرخ يجد دراسات تاريخية موثقة، وعالم الاجتماع يجد تحليلات للظواهر الاجتماعية المعاصرة، والأديب يجد نقداً أدبياً رفيعاً. هذا التنوع ليس تشتتاً بل تجسيد لرؤية كلية ترى الترابط بين مختلف جوانب الواقع الإنساني.

النقد الذاتي والموضوعية

النقد الذاتي والموضوعية

رغم حدة نقده للحداثة الغربية، لا يسقط المسيري في فخ التعصب أو الرفض الكلي. يميز بوضوح بين الإنجازات الحقيقية للحضارة الغربية والتشوهات الناتجة عن النموذج المعرفي المادي. يعترف بأهمية الثورة العلمية والتقدم التقني والمؤسسات الديمقراطية، لكنه يرفض تقديسها أو اعتبارها نهاية التاريخ.

كذلك، يوجه المسيري نقداً ذاتياً للواقع العربي والإسلامي. لا يكتفي بإلقاء اللوم على الغرب أو الاستعمار، بل يشخص الأزمات الداخلية والتحديات الفكرية التي تواجه المجتمعات الإسلامية. يدعو إلى تجديد الفكر الإسلامي وإلى اجتهاد جديد يواجه تحديات العصر دون التفريط في الثوابت الأساسية. هذا النقد الذاتي يجعل مشروعه الفكري أكثر مصداقية وأكثر قدرة على الإقناع.

تتجلى موضوعية المسيري في اعترافه بتعقيد القضايا ورفضه للاختزالات الأيديولوجية. لا يقدم حلولاً جاهزة أو يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بل يفتح آفاقاً للتفكير والنقاش. يدرك أن الواقع الإنساني أكثر تعقيداً من أي نظرية، وأن التحليل المعرفي هو محاولة لفهم هذا التعقيد لا لإلغائه.

تأثير المسيري على الفكر العربي المعاصر

يمتد تأثير المسيري عميقاً في الفكر العربي المعاصر. فتح نقده للحداثة الباب أمام جيل جديد من المفكرين للتعامل بشكل نقدي مع الحداثة الغربية دون الوقوع في الرفض الكلي أو القبول الأعمى. قدم أدوات منهجية ومفاهيم تحليلية ساعدت الباحثين على فهم الظواهر المعقدة بطريقة أكثر عمقاً وشمولاً.

أثرت مفاهيمه، خاصة مفهوم النموذج المعرفي والتمييز بين العلمانية الجزئية والشاملة، على العديد من الدراسات في مختلف المجالات. استخدمها باحثون في دراسة الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما ساهم في إعادة الاعتبار للبعد المعرفي في التحليل الفكري، بعد أن هيمنت المقاربات الوصفية أو الأيديولوجية على الساحة الفكرية العربية.

مع ذلك، لم يخلُ مشروعه الفكري من النقد والجدل. اعتبر البعض أن تركيزه على النموذج المعرفي الغربي يؤدي أحياناً إلى تعميمات قد لا تنطبق على جميع التيارات الفكرية الغربية. ورأى آخرون أن رؤيته الإنسانية، رغم قيمتها، تحتاج إلى مزيد من التفصيل في الجوانب العملية والتطبيقية. هذا الجدل نفسه يؤكد أهمية مشروعه وحيويته.

الإرث الفكري والآفاق المستقبلية

رحل المسيري عام ٢٠٠٨ تاركاً إرثاً فكرياً ضخماً يتضمن عشرات الكتب ومئات المقالات. لكن أهم ما تركه ليس فقط هذا الإنتاج الغزير، بل المنهج والرؤية التي تفتح آفاقاً واسعة للتفكير والبحث. أثبتت أفكاره قدرة على الصمود والتطور، حيث تظل ذات صلة بالقضايا المعاصرة رغم مرور السنوات.

تحتاج الأجيال الجديدة إلى إعادة قراءة المسيري وتطوير أفكاره في ضوء التحديات المعاصرة. فالعالم اليوم يواجه قضايا جديدة لم تكن حاضرة بنفس الحدة في زمنه: الذكاء الاصطناعي، الهندسة الوراثية، الأزمة البيئية، التحولات الاجتماعية العميقة. رؤيته النقدية للحداثة وإطاره المعرفي يمكن أن يقدما أدوات قيمة لفهم هذه الظواهر والتعامل معها بطريقة إنسانية ومسؤولة.

يبقى السؤال المطروح: كيف نبني حداثة بديلة تتجاوز تشوهات الحداثة الغربية دون أن تفرط في إنجازاتها؟ كيف نحافظ على البعد الإنساني والروحي في عالم تهيمن عليه المادية والتقنية؟ كيف نحترم التنوع الثقافي في عالم تدفعه العولمة نحو التوحد؟ هذه الأسئلة التي طرحها المسيري لا تزال ملحة وتنتظر إجابات من الأجيال الحالية والقادمة.

خلاصة القول

يقدم عبد الوهاب المسيري في مشروعه النقدي رؤية شاملة وعميقة لأزمة الحداثة ومخرجاتها. لم يكن نقده مجرد رفض للحداثة الغربية، بل كان محاولة جادة لبناء بديل معرفي إنساني يستعيد للإنسان مركزيته وكرامته. استخدم مفهوم النموذج المعرفي كأداة تحليلية قوية لكشف البنى العميقة التي تحكم الفكر الحداثي، مركزاً على الحلولية الكامنة كجذر للأزمة.

كشف المسيري عن التحيزات المعرفية في الخطاب الحداثي وعن كيفية تحول القيم الإنسانية التي رفعتها الحداثة شعاراً إلى أدوات للهيمنة والسيطرة. أظهر كيف أن المادية والعلمانية الشاملة أديتا إلى تشييء الإنسان وإفراغ الحياة من المعنى، مما خلق أزمة روحية وأخلاقية عميقة في المجتمعات الحديثة.

في مواجهة هذه الأزمة، طرح المسيري رؤية إنسانية بديلة تقوم على الاعتراف بالبعد المتجاوز في الوجود الإنساني وعلى رفض الاختزالية بكل صورها. دعا إلى حداثة بديلة تنبع من السياقات الحضارية المختلفة وتحترم التنوع الإنساني، حداثة تضع الإنسان في المركز وتوجه العلم والتقنية لخدمة القيم الإنسانية لا لاختزالها.

يظل إرث المسيري الفكري حياً ومؤثراً، يقدم للأجيال المعاصرة أدوات منهجية ورؤية نقدية تساعد على فهم التحديات الراهنة والمستقبلية. مشروعه لم يكتمل بوفاته، بل فتح آفاقاً واسعة للبحث والتفكير تنتظر من يواصل البناء عليها ويطورها في ضوء المستجدات. إن أعظم تكريم لهذا المفكر الكبير يكمن في مواصلة مشروعه النقدي والإبداعي، لا في تقديسه أو تكراره دون تطوير.