في رحاب الحكمة العربية الأصيلة، يتجلى مثل “لا تكُن حُلْواً فتُسْتَرطَ، ولاَ مُرّاً فَتُعقى” كدرة نفيسة تضيء دروب التعامل الإنساني. هذا القول الخالد يحمل في طياته فلسفة عميقة حول الاعتدال في التعامل مع الآخرين، مشكلاً بوصلة أخلاقية ترشد السالكين نحو التوازن المنشود.
المحتويات
جوهر الحكمة في المثل وتفسير اللغويين
قبل كل شيء، يُجسّد هذا المثل جوهر الحكمة من خلال صورة بلاغية آسرة، إذ يستعير من عالم الطعام ما يقرّب المعنى إلى الأذهان. فقد شرح علماء اللغة أن الاسترط يعني الابتلاع السهل واليسير، ولذلك نجد أن الحلو المسترط يرمز إلى الشخص الذي يفرط في المجاملة حتى يستهلكه الآخرون دون تقدير أو احترام، تمامًا كما يبتلع الناس اللقمة الحلوة بسرعة. وفي المقابل، أوضحوا أن الإعقاء يدل على شدة المرارة التي تدفع المرء إلى اللفظ والطرح، وهو تصوير للطبع القاسي المنفّر الذي يدفع الناس إلى النفور والابتعاد. وهكذا، يضعنا المثل بين قطبي السلوك الإنساني: الإفراط في الحلاوة الذي يذيب الهيبة، والإفراط في المرارة الذي يمحو القبول، ليؤكد أن التوازن يمثل سرّ الاعتدال والنجاح في العلاقات الإنسانية.
عبر هذا التشبيه البديع، ترتسم أمامنا صورة إنسان يعرف قيمة التوازن، فيسير بخطوات واثقة على طريق الوسطية. أراد المثل أن يهمس في آذاننا: لا تفرط في الحلاوة حتى لا يستهلكك من حولك، ولا تغرق في المرارة حتى لا ينفر منك الآخرون. فلا تعش الحياة على طرفي النقيض، بل في مساحة ذهبية تجعل وجودك محبوبًا، مؤثرًا، ومقبولًا.
التوازن في العلاقات الإنسانية
الحُلو المُسترط: مخاطر الإفراط في اللين
حين يغرق الإنسان في بحار المجاملة المفرطة، يصبح كالعسل الذي يُلتهم دون تقدير. هؤلاء الأشخاص، رغم حسن نواياهم، يجدون أنفسهم:
- محاطين بمن يستغل طيبتهم
- عاجزين عن وضع الحدود الضرورية
- مفتقرين للهيبة والاحترام الحقيقي
- ضائعين وسط متاهات الاستغلال
المُر المُعقى: عواقب القسوة المفرطة
على النقيض، نجد الشخص المفرط في القسوة يشبه الدواء المُر الذي ينفر منه الناس. مثل هذا الطبع يؤدي إلى:
- نفور الآخرين وتجنبهم
- خلق بيئة من التوتر والخوف
- فقدان الود والمحبة
- العزلة الاجتماعية والنفسية
تطبيق الاعتدال في التعامل
في بيئة العمل
يحتاج المدير الناجح إلى إتقان فن التوازن بين الحزم والمرونة. فلا يكون متساهلاً إلى درجة فقدان السيطرة، ولا قاسياً إلى حد تدمير الروح المعنوية للفريق.
في التربية والأبوة
الوالد الحكيم يدرك أن التربية السليمة تتطلب مزيجاً متناغماً من الحب والحزم. فالإفراط في التدليل ينتج شخصيات ضعيفة، بينما القسوة المفرطة تكسر الأرواح وتدمر الثقة.
في العلاقات الاجتماعية
الصداقة الحقيقية تنمو في ظلال التوازن، حيث الصدق دون جرح، والوفاء دون استغلال، والنصح دون تطفل.
حكمة الأجداد في ميزان العصر الحديث
رغم مرور قرون، تظل هذه الحكمة راهنة ومعاصرة. في عالم اليوم المعقد، يحتاج الإنسان أكثر من أي وقت مضى إلى إتقان فن التوازن. فوسائل التواصل الاجتماعي، وضغوط الحياة العصرية، وتعقد العلاقات الإنسانية، كلها تجعل من الاعتدال في التعامل ضرورة حيوية.
خطوات عملية نحو التوازن
لتطبيق هذه الحكمة في حياتك، اعتبر هذه الخطوات:
- اعرف نفسك: حدد نقاط قوتك وضعفك في التعامل
- راقب ردود الأفعال: انتبه لكيفية تفاعل الآخرين معك
- تدرب على قول “لا”: دون أن تكون فظاً أو مبرراً مفرطاً
- اطلب التغذية الراجعة: من أشخاص تثق في صدقهم
- تعلم من النماذج: ادرس سلوك من تحترم اتزانهم
خاتمة: درب الحكماء
في نهاية المطاف، يبقى مثل “لا تكُن حُلْواً فتُسْتَرطَ، ولاَ مُرّاً فَتُعقى” منارة تضيء طريق من يسعى لإتقان فن العيش. إنه تذكير دائم بأن الحكمة الحقيقية تكمن في التوسط والاعتدال، وأن الشخصية المتوازنة هي التي تحظى بالاحترام والتقدير.
لذا، اسع لتكون كالنهر الجاري، لا جامداً كالبركة الآسنة، ولا جارفاً كالسيل المدمر، بل متدفقاً بانسيابية وحكمة، تروي من تمر به دون أن تغرقه، وتحمل الخير دون أن تفرط فيه.