في قلب جزيرة قرقنة التونسية، بين أصوات الصيادين ونسائم البحر الأبيض المتوسط، وُلد رجل سيغير مجرى التاريخ العمالي في العالم العربي. لم يكن فرحات حشاد يعلم وهو يخطو خطواته الأولى في بلدة العباسية عام 1914، أنه سيصبح رمزاً للنضال العمالي ومؤسس أول منظمة نقابية حقيقية في المنطقة.
تحكي لنا قصة هذا الزعيم الاستثنائي عن رجل آمن بقوة الكلمة والتنظيم، واستطاع أن يحول أحلام الطبقة العاملة إلى واقع ملموس. في رحلة امتدت لثمانية وثلاثين عاماً فقط، نسج حشاد خيوط حركة عمالية قوية أصبحت منارة للعدالة الاجتماعية في تونس وخارجها.
المحتويات
البدايات المتواضعة: من قرقنة إلى التاريخ
وُلد فرحات حشاد في الثاني من فبراير عام 1914 في بلدة العباسية بجزيرة قرقنة، في بيئة بسيطة شكلت شخصيته وزرعت فيه قيم التضامن والعدالة. كان والده صياداً متواضعاً، وهو ما جعل الطفل الصغير يشهد منذ نعومة أظفاره معاناة الطبقات الكادحة وضرورة النضال من أجل لقمة العيش الكريمة.
دخل حشاد المدرسة الفرنسية في طفولته، حيث تلقى تعليماً جيداً مكّنه من إتقان اللغة الفرنسية إلى جانب العربية. هذه المهارة اللغوية ستصبح لاحقاً أداة قوية في يديه للتفاوض مع السلطات الاستعمارية والدفاع عن حقوق العمال.
منذ شبابه المبكر، أظهر حشاد اهتماماً واضحاً بالقضايا الاجتماعية والوطنية. كان يراقب بعين ثاقبة كيف يعاني العمال التونسيون تحت نير الاستعمار الفرنسي، وكيف تُهدر حقوقهم وكرامتهم في ظل نظام اقتصادي غير عادل.
النشأة السياسية والوعي الطبقي
في بداية الثلاثينيات، انضم فرحات حشاد إلى الحزب الدستوري التونسي، الذي كان آنذاك يقود الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي. لكن الشاب اليافع سرعان ما أدرك أن النضال السياسي وحده لا يكفي لتحقيق العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها.
بدأ حشاد في تكوين فهم عميق للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العمال التونسيون. لاحظ كيف أن النقابات الموجودة آنذاك كانت تحت سيطرة المستعمرين، ولا تخدم مصالح العمال التونسيين الحقيقية. كانت هذه النقابات تركز أساساً على خدمة العمال الأوروبيين، بينما تُهمّش مطالب العمال المحليين.
خلال هذه الفترة، سافر حشاد إلى فرنسا حيث عمل واكتسب خبرة مباشرة في النضال العمالي الأوروبي. شاهد كيف تعمل النقابات القوية، وكيف يمكن للعمال أن يتحدوا لتحقيق مطالبهم. هذه التجربة الثرية ستكون بمثابة المدرسة التي تخرج منها ليعود إلى تونس بأفكار جديدة وطموحات كبيرة.
تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل: حلم يصبح حقيقة
عاد فرحات حشاد إلى تونس في منتصف الأربعينيات وهو محمل بأحلام كبيرة ورؤية واضحة لما يريد تحقيقه. كان يدرك أن العمال التونسيين بحاجة إلى منظمة نقابية حقيقية تدافع عن حقوقهم وتحمي مصالحهم.
في العشرين من يناير عام 1946، شهدت تونس حدثاً تاريخياً استثنائياً. انعقد مؤتمر تأسيسي حضره مئات من العمال والنقابيين، أعلن فيه عن ميلاد الاتحاد العام التونسي للشغل. كان هذا المؤتمر بمثابة نقطة تحول في تاريخ الحركة العمالية ليس في تونس فحسب، بل في العالم العربي كله.
انتُخب فرحات حشاد أميناً عاماً للاتحاد الجديد، وهو المنصب الذي سيحتفظ به حتى اغتياله عام 1952. من اللحظة الأولى، أظهر حشاد قيادة حكيمة ورؤية استراتيجية واضحة لما يريد أن يحققه الاتحاد.
مبادئ وأهداف الاتحاد
وضع حشاد للاتحاد العام التونسي للشغل مجموعة من المبادئ الأساسية التي جعلته يختلف عن النقابات التقليدية:
الاستقلالية الكاملة: رفض حشاد أن يكون الاتحاد تابعاً لأي حزب سياسي أو جهة خارجية. أراد أن تكون المنظمة مستقلة تماماً وتعمل لصالح العمال فقط.
الوحدة الوطنية: دعا إلى توحيد جميع العمال التونسيين تحت راية واحدة، بغض النظر عن خلفياتهم الجهوية أو الطائفية.
العدالة الاجتماعية: جعل من تحقيق العدالة الاجتماعية هدفاً أساسياً، يشمل تحسين أوضاع العمال المعيشية وضمان حقوقهم الأساسية.
المقاومة السلمية: آمن بأن النضال السلمي والمنظم هو الطريق الأمثل لتحقيق المطالب العمالية.
إنجازات ومعارك الاتحاد تحت قيادة فرحات حشاد
لم يكتف فرحات حشاد بتأسيس الاتحاد، بل عمل بكل طاقته لتحويله إلى قوة حقيقية قادرة على تغيير واقع العمال التونسيين. خلال السنوات الست التي قاد فيها الاتحاد، حقق إنجازات مهمة غيرت وجه الحركة العمالية في تونس.
توسيع القاعدة التنظيمية
بدأ الاتحاد بعضوية محدودة، لكن بفضل جهود حشاد الدؤوبة، نما ليضم آلاف العمال من مختلف القطاعات. أنشأ فروعاً في جميع أنحاء تونس، ووصل إلى العمال في المناطق النائية الذين لم تصلهم الحركة النقابية من قبل.
شملت العضوية عمال المناجم والموانئ والمصانع والزراعة والخدمات. كان حشاد يؤمن بأن قوة الاتحاد تكمن في تنوع أعضائه ووحدتهم حول المطالب المشتركة.
المفاوضات والإضرابات
نظم الاتحاد تحت قيادة حشاد عشرات الإضرابات السلمية التي هدفت إلى تحسين ظروف العمل وزيادة الأجور. كان حشاد مفاوضاً ماهراً، يجمع بين الحزم في الدفاع عن الحقوق والحكمة في إيجاد الحلول.
من أبرز الإضرابات التي قادها الاتحاد إضراب عمال مناجم الفوسفات في قفصة عام 1947، والذي نتج عنه تحسينات مهمة في أجور العمال وظروف عملهم.
التعاون الدولي
لم يكتف حشاد بالعمل على المستوى المحلي، بل سعى إلى ربط الحركة العمالية التونسية بالحركات العمالية العالمية. في عام 1949، انضم الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الاتحاد الدولي لاتحادات العمال الحرة، مما منحه اعترافاً دولياً وفتح أمامه آفاقاً جديدة للتعاون.
النضال الوطني والسياسي
لم تقتصر أنشطة فرحات حشاد على المجال النقابي فحسب، بل امتدت لتشمل النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي. كان يرى أن تحرير الوطن وتحرير العمال وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن تحقيق أحدهما دون الآخر.
خلال فترة تصاعد المقاومة المسلحة ضد الاستعمار في أوائل الخمسينيات، لعب حشاد دوراً مهماً في تنسيق جهود المقاومة. رغم أنه آمن بالنضال السلمي، إلا أنه دعم حق الشعب التونسي في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة.
كان حشاد على اتصال وثيق مع قادة الحركة الوطنية، وساهم في توحيد جهود مختلف التيارات السياسية ضد العدو المشترك. هذا الدور السياسي المتنامي جعله هدفاً للسلطات الاستعمارية التي رأت فيه تهديداً كبيراً لمصالحها.
العلاقة مع الحبيب بورقيبة
تميزت العلاقة بين فرحات حشاد والحبيب بورقيبة، زعيم الحزب الدستوري الجديد، بالتعقيد. في البداية، كان هناك تعاون وثيق بين الرجلين في إطار النضال الوطني المشترك. لكن مع مرور الوقت، برزت خلافات حول التكتيكات والاستراتيجيات.
كان حشاد يؤمن بضرورة الحفاظ على استقلالية الحركة العمالية عن الأحزاب السياسية، بينما كان بورقيبة يفضل توحيد جميع جهود المقاومة تحت قيادة سياسية واحدة. رغم هذه الخلافات، احتفظ الرجلان بالاحترام المتبادل والتعاون في القضايا الوطنية الكبرى.
صعود النجم وتنامي التهديدات
مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، أصبح فرحات حشاد شخصية وطنية بارزة يحظى بشعبية واسعة بين الجماهير التونسية. لم تعد شهرته مقتصرة على الأوساط العمالية، بل امتدت لتشمل مختلف طبقات المجتمع.
هذه الشعبية المتنامية أقلقت السلطات الاستعمارية الفرنسية التي رأت في حشاد تهديداً خطيراً لمصالحها في تونس. كان تأثيره على الجماهير يتزايد يوماً بعد يوم، وقدرته على تنظيم الإضرابات والمقاومة السلمية تشكل عقبة أمام سياسات الإدارة الاستعمارية.
بدأت التهديدات تتوالى على حشاد من جهات مختلفة. منظمة “اليد الحمراء” الإرهابية الاستعمارية، التي كانت تستهدف رموز المقاومة الوطنية، وضعت اسمه على قائمة أهدافها الأولى.
الاغتيال: نهاية مأساوية لزعيم عظيم
في الخامس من ديسمبر عام 1952، شهدت تونس جريمة هزت الضمير الوطني والعربي. بينما كان فرحات حشاد في طريقه إلى منزله في منطقة رادس، اعترضته سيارة تحمل مسلحين من منظمة “اليد الحمراء” الإرهابية.
أطلق المجرمون عليه وابلاً من الرصاص أرداه قتيلاً في الحال. كان حشاد في الثامنة والثلاثين من عمره فقط، في أوج عطائه ونضجه الفكري والسياسي. سقط الزعيم النقابي شهيداً، لكن أفكاره ومبادئه بقيت حية في قلوب أتباعه ومحبيه.
ردود الفعل على اغتيال فرحات حشاد
هز نبأ اغتيال فرحات حشاد تونس والعالم العربي بأسره. خرجت الجماهير في مظاهرات عارمة تنديداً بالجريمة النكراء ومطالبة بالعدالة. الاتحاد العام التونسي للشغل دعا إلى إضراب عام شمل جميع أنحاء البلاد.
حتى على المستوى الدولي، أدانت منظمات عمالية وحقوقية عديدة الاغتيال واعتبرته جريمة ضد الإنسانية. الاتحاد الدولي لاتحادات العمال الحرة عبّر عن صدمته وأسفه لفقدان أحد أبرز القادة العماليين في العالم.
الإرث والتأثير المستمر
رغم أن فرحات حشاد غادر الحياة في سن مبكرة، إلا أن إرثه الفكري والتنظيمي استمر في التأثير على الحركة العمالية التونسية والعربية لعقود طويلة. الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أسسه ما زال حتى اليوم أقوى منظمة نقابية في تونس والعالم العربي.
استمرارية المؤسسة
بعد اغتيال مؤسسه، واصل الاتحاد العال التونسي للشغل مسيرته النضالية. تولى قيادته مناضلون آخرون ساروا على نهج حشاد في الدفاع عن حقوق العمال والعدالة الاجتماعية. خلال سنوات الاستقلال وما بعدها، لعب الاتحاد دوراً محورياً في تشكيل السياسات الاجتماعية والاقتصادية في تونس.
التأثير على الحركات العمالية العربية
المثال الذي ضربه فرحات حشاد في تأسيس أول نقابة مستقلة في العالم العربي ألهم حركات عمالية أخرى في المنطقة. العديد من البلدان العربية أسست نقاباتها على غرار النموذج التونسي، مستفيدة من الخبرات والمبادئ التي وضعها حشاد.
دور فرحات حشاد في الثورة التونسية
حتى في أحداث الربيع العربي والثورة التونسية عام 2011، كان إرث فرحات حشاد حاضراً. الاتحاد العام التونسي للشغل لعب دوراً مهماً في أحداث الثورة وفي الانتقال الديمقراطي الذي تلاها. الكثيرون رأوا في هذا الدور استمراراً لنهج حشاد في الدفاع عن كرامة الشعب وحقوقه.
الدروس المستفادة من مسيرة فرحات حشاد
تحمل قصة فرحات حشاد دروساً قيمة يمكن للأجيال الحالية والقادمة الاستفادة منها:
أهمية التنظيم: أظهر حشاد أن القوة الحقيقية للطبقة العاملة تكمن في تنظيمها ووحدتها. المؤسسات القوية والمنظمة هي الضامن الوحيد لتحقيق التغيير المطلوب.
الاستقلالية والكرامة: رفض حشاد دائماً أن يكون تابعاً لأي جهة، وحافظ على استقلالية حركته النقابية. هذا المبدأ ضروري لأي حركة تريد أن تحقق أهدافها بصدق وفعالية.
النضال السلمي: آمن بأن التغيير الحقيقي والمستدام يأتي من خلال النضال السلمي المنظم، وليس من خلال العنف أو التطرف.
الصبر والمثابرة: بناء المؤسسات والتغيير الاجتماعي يحتاج إلى وقت وصبر. حشاد عمل لسنوات طويلة بصبر ومثابرة حتى حقق أهدافه.
خلاصة: رجل غيّر التاريخ
فرحات حشاد لم يكن مجرد زعيم نقابي عادي، بل كان رجلاً استطاع أن يحول أحلام الطبقة العاملة التونسية والعربية إلى حقائق ملموسة. في عالم كان فيه العمال يعانون تحت وطأة الاستعمار والاستغلال، وقف حشاد ليقول كلمة الحق ويدافع عن كرامة الإنسان العامل.
تأسيسه للاتحاد العام التونسي للشغل لم يكن مجرد إنشاء منظمة جديدة، بل كان بداية عهد جديد في تاريخ الحركة العمالية العربية. هذا الإنجاز التاريخي جعل من تونس الصغيرة منارة للعدالة الاجتماعية في المنطقة بأسرها.
اليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً على اغتياله، ما زال اسم فرحات حشاد يُذكر بإجلال واحترام. ما زالت مبادئه ترشد الحركات العمالية، وما زال مثاله يلهم المناضلين من أجل العدالة الاجتماعية في كل مكان.
قصة هذا الرجل الاستثنائي تذكرنا بأن الأفراد يمكنهم فعلاً تغيير مجرى التاريخ عندما يؤمنون بقضيتهم ويعملون من أجلها بإخلاص وتفان. فرحات حشاد عاش حياة قصيرة لكنها كانت مليئة بالإنجازات والتأثير الإيجابي الذي امتد عبر الأجيال.
في عالم اليوم الذي ما زال يواجه تحديات العدالة الاجتماعية وحقوق العمال، تبقى رسالة فرحات حشاد أكثر أهمية من أي وقت مضى. رسالة تقول أن النضال من أجل العدالة والكرامة الإنسانية يستحق كل التضحيات، وأن المؤسسات القوية والمنظمة هي الضامن الوحيد لتحقيق التقدم الحقيقي للشعوب.