في عالم السياسة التركية المعقد، نادراً ما نجد شخصية استطاعت تحدي النظام العلماني الراسخ وإحداث نقلة جذرية في مسار البلاد. هذه هي قصة نجم الدين أربكان، المهندس البسيط الذي تحول إلى رمز سياسي مؤثر، وأصبح أول رئيس وزراء إسلامي في تاريخ تركيا الحديثة. رحلته من قاعات الهندسة إلى قصور الحكم تحكي قصة إصرار وثبات، وتسلط الضوء على كيفية تغيير مسار أمة بأكملها.
المحتويات
البدايات المتواضعة: من سينوب إلى اسطنبول
وُلد نجم الدين أربكان في 29 أكتوبر 1926 في مدينة سينوب الصغيرة على ساحل البحر الأسود. نشأ في عائلة متوسطة الحال، حيث كان والده قاضياً محلياً يؤمن بأهمية التعليم. هذه البيئة المتدينة والمتعلمة أثرت في شخصيته المستقبلية بطريقة عميقة.
منذ صغره، أظهر أربكان تفوقاً دراسياً لافتاً. بعد إنهاء المرحلة الثانوية بامتياز، التحق بكلية الهندسة الميكانيكية في جامعة اسطنبول التقنية، إحدى أعرق الجامعات التركية. خلال دراسته الجامعية، لم يكن مجرد طالب عادي، بل تميز بذكائه الحاد وقدرته على حل المشكلات المعقدة.
ما يلفت النظر في شخصية أربكان الشاب هو توازنه بين التفوق الأكاديمي والالتزام الديني. في وقت كانت فيه النخبة التركية تميل نحو العلمانية الكاملة، حافظ على هويته الإسلامية دون تعارض مع تطلعاته العلمية والمهنية.
الانطلاقة المهنية: مهندس بأحلام كبيرة
بعد تخرجه عام 1948، عمل أربكان مهندساً في شركة ألمانية متخصصة في صناعة المحركات. هذه التجربة الأوروبية وسعت مداركه وعرفته على أحدث التقنيات الصناعية. لكن الأهم من ذلك، كانت هذه الفترة بمثابة محطة تأمل عميق حول مستقبل تركيا الاقتصادي.
عند عودته إلى تركيا، أسس شركته الخاصة لتصنيع المحركات. رغم نجاحه في المجال الهندسي، كان يحمل رؤية أوسع للتنمية الاقتصادية. آمن بضرورة تطوير الصناعة التركية وتقليل الاعتماد على الخارج، وهي أفكار ستصبح لاحقاً ركائز أساسية في برنامجه السياسي.
خلال هذه المرحلة، بدأ نجم الدين أربكان يطور فهماً عميقاً لتحديات التنمية الاقتصادية في الدول النامية. لاحظ كيف أن الاعتماد المفرط على الغرب يحد من قدرة الدول الإسلامية على تحقيق التقدم الحقيقي، وهو ما دفعه لاحقاً لتبني فكرة التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية.
الدخول إلى المعترك السياسي: تحدي النخبة العلمانية
في عام 1969، اتخذ أربكان قراراً جريئاً بالدخول إلى السياسة. انضم إلى حزب العدالة، لكن سرعان ما اكتشف أن رؤيته للتنمية والهوية التركية تختلف جذرياً عن توجهات الحزب. هذا التناقض دفعه لتأسيس حزب النظام الوطني عام 1970، والذي يُعتبر أول حزب سياسي إسلامي في تاريخ تركيا الحديثة.
تأسيس الحزب لم يكن مجرد خطوة سياسية، بل كان بمثابة ثورة فكرية. في دولة أقامها أتاتورك على أسس علمانية صارمة، كان طرح البديل الإسلامي أمراً محفوفاً بالمخاطر. المؤسسة العسكرية، حارسة العلمانية في تركيا، نظرت إلى هذا التطور بقلق شديد.
مواجهة التحديات والمحن
الطريق نحو السلطة لم يكن مفروشاً بالورود. في عام 1971، أُغلق حزب النظام الوطني بقرار من المحكمة الدستورية، واعتُقل أربكان لفترة قصيرة. لكن بدلاً من أن تثني هذه المحنة من عزيمته، زادت من إصراره على متابعة مشروعه السياسي.
عام 1972، أسس حزب السلامة الوطني، وهو استمرار لمشروعه السياسي تحت اسم جديد. هذه المرة، تعلم كيف يتعامل مع حساسيات النظام العلماني دون التخلي عن مبادئه الأساسية. استطاع الحزب الجديد أن يحقق نجاحاً انتخابياً ملموساً، ما أكد أن هناك قاعدة شعبية واسعة تتطلع إلى البديل الإسلامي.
الصعود التدريجي: استراتيجية الصبر والمثابرة
إحدى أهم سمات شخصية أربكان السياسية كانت قدرته على التخطيط طويل المدى. فهم أن تغيير نظام سياسي راسخ يتطلب صبراً وحكمة واستراتيجية محكمة. لذلك، تبنى نهجاً تدريجياً في البناء السياسي، يركز على توسيع القاعدة الشعبية وإثبات الجدارة في الحكم المحلي قبل التطلع إلى السلطة المركزية.
خلال السبعينيات والثمانينيات، عمل أربكان على بناء شبكة واسعة من التأييد الشعبي. استثمر في التعليم والإعلام، وأسس مؤسسات تعليمية ومالية تعكس رؤيته للتنمية الإسلامية. كما طور خطاباً سياسياً متوازناً يجمع بين الأصالة الإسلامية والحداثة التقنية.
الإنجازات الاقتصادية المبكرة
رغم أن أربكان لم يصل إلى رئاسة الوزراء إلا في التسعينيات، فإن أحزابه المتعاقبة حققت إنجازات مهمة على المستوى الاقتصادي. شارك في عدة حكومات ائتلافية، حيث تولى وزارات اقتصادية مهمة. في هذه المناصب، طبق بعض أفكاره حول التنمية الاقتصادية المستقلة والتعاون مع الدول الإسلامية.
أحد أهم إنجازاته في هذه المرحلة كان تأسيس منظمة التعاون الاقتصادي الإسلامي، والتي تهدف إلى تعزيز التبادل التجاري بين الدول الإسلامية. هذه المبادرة عكست رؤيته الشاملة للتنمية، التي لا تقتصر على الحدود الوطنية بل تمتد لتشمل الأمة الإسلامية ككل.
اللحظة التاريخية: رئيس وزراء تركيا
في يونيو 1996، تحقق حلم أربكان أخيراً. أصبح أول رئيس وزراء إسلامي في تاريخ تركيا الحديثة، على رأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم. هذه اللحظة التاريخية لم تكن مجرد انتصار شخصي، بل كانت نقطة تحول في السياسة التركية.
فترة حكمه، رغم قصرها (استمرت عاماً واحداً فقط)، شهدت تطورات مهمة على عدة أصعدة:
السياسة الخارجية: تبنى أربكان سياسة خارجية متوازنة، تهدف إلى تنويع شراكات تركيا الدولية. زار عدة دول إسلامية وعمل على تعزيز العلاقات معها، خاصة إيران وليبيا، ما أثار قلق الغرب والمؤسسة العسكرية التركية.
الاقتصاد: ركز على تطوير الصناعات المحلية وتقليل الاعتماد على الواردات. كما عمل على تعزيز التجارة مع الدول الإسلامية، تطبيقاً لرؤيته حول التكامل الاقتصادي الإسلامي.
السياسة الداخلية: حاول تحقيق التوازن بين احترام العلمانية الدستورية وتلبية تطلعات قاعدته الإسلامية. هذا التوازن الدقيق كان من أصعب التحديات التي واجهها.
التحديات والصعوبات: مواجهة المؤسسة العميقة
حكم أربكان واجه معارضة شرسة من المؤسسة العسكرية والنخبة العلمانية. في فبراير 1997، قدم المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي تهيمن عليه القيادة العسكرية، مذكرة إلى الحكومة تتضمن إجراءات صارمة لمحاربة ما أسموه “الإرهاب الإسلامي”.
هذه المذكرة، التي عُرفت باسم “انقلاب 28 فبراير الناعم”، فرضت قيوداً شديدة على الأنشطة الدينية والتعليم الإسلامي. الضغط العسكري والسياسي تزايد تدريجياً، حتى اضطر أربكان للاستقالة في يونيو 1997.
الدروس المستفادة من التجربة
رغم قصر فترة حكمه، ترك أربكان بصمة واضحة على السياسة التركية. تجربته علمت الحركة الإسلامية دروساً مهمة حول كيفية التعامل مع النظام العلماني والمؤسسة العسكرية. كما أثبتت أن الشعب التركي مستعد لقبول البديل الإسلامي، شريطة أن يُقدم بطريقة متوازنة ومعتدلة.
الإرث والتأثير: بذور النهضة الإسلامية
رغم إجباره على التقاعد من السياسة، إلا أن تأثير أربكان استمر عبر تلامذته وأتباعه. أهم هؤلاء التلامذة كان رجب طيب أردوغان، الذي أصبح لاحقاً رئيساً لتركيا، وعبد الله غل، الذي تولى رئاسة الجمهورية. هؤلاء القادة استفادوا من تجربة أستاذهم وطوروا نهجاً أكثر براغماتية في التعامل مع النظام العلماني.
حزب العدالة والتنمية، الذي أسسه أردوغان عام 2001، يُعتبر الوريث الطبيعي لمشروع أربكان السياسي. الحزب استطاع تحقيق ما لم يتمكن أربكان من إنجازه: البقاء في السلطة لفترة طويلة وإحداث تغييرات جذرية في تركيا.
الإنجازات طويلة المدى
تأثير أربكان على السياسة التركية يمكن قياسه من خلال عدة معايير:
التأسيس الفكري: وضع الأسس النظرية للسياسة الإسلامية في تركيا، وطور خطاباً يجمع بين الأصالة والحداثة.
البناء التنظيمي: أسس تقليداً في العمل السياسي المنظم، وبنى مؤسسات قوية استمرت بعد رحيله.
التنمية الاقتصادية: رؤيته للتنمية المستقلة والتعاون الإسلامي ألهمت السياسات الاقتصادية اللاحقة.
التوازن السياسي: علم أتباعه كيفية التعامل مع التعددية السياسية والنظام الديمقراطي.
الخلاصة: من الهندسة إلى التاريخ
قصة نجم الدين أربكان هي قصة رجل استطاع تحويل شغفه بالتنمية والعدالة إلى مشروع سياسي غير مسار أمة. من مهندس مغمور في سينوب إلى أول رئيس وزراء إسلامي في تركيا، رحلته تعكس قوة الإرادة والثبات على المبادئ.
تجربة أربكان تقدم دروساً قيمة لكل من يريد إحداث تغيير إيجابي في مجتمعه. تعلمنا أن التغيير الحقيقي يتطلب صبراً ومثابرة، وأن النجاح لا يقتصر فقط على الوصول إلى السلطة، بل على التأثير طويل المدى على الأجيال القادمة.
اليوم، بعد أكثر من عقدين على وفاته، لا يزال إرث أربكان حياً في السياسة التركية. رؤيته للتنمية الاقتصادية والتعاون الإسلامي تُطبق على أرض الواقع، ومبادئه في التوازن بين الأصالة والحداثة تُدرس في الجامعات. هكذا تُكتب قصص العظماء: ليس فقط بما حققوه في حياتهم، بل بما تركوه للأجيال القادمة من إلهام وأمل.
هذه المقالة جزء من سلسلة قصص ملهمة نقدمها لكم في موقع www.pictwords.com حيث نسلط الضوء على شخصيات غيرت مجرى التاريخ بإصرارها وعزيمتها.