رجل يقف في الحقل عند غروب الشمس، متأملًا الأفق بعزيمة، رمزًا للإصرار على ركوب الصعب حين تغيب السهولة.

يرْكبُ الصّعبَ مَن لا ذَلول له

في رحاب الأمثال العربية، تتلألأ الحكمة كنجوم تهدي السائرين في عتمة التجارب. ومن بين تلك اللآلئ الموروثة، يسطع مثل “يركب الصعب من لا ذلول له” ليذكّرنا بأن ركوب الصعب ليس ترفًا، بل هو موقف وجودي تفرضه الحاجة، حين لا يبقى أمام المرء سوى الإقدام والتحدي. إنه نداء للشجاعة والصبر، وللإصرار على بلوغ المقصود رغم وعورة الطريق.

جذور المثل في الثقافة العربية

ينبع هذا المثل من بيئة الصحراء حيث كان الجمل رفيق الإنسان في ترحاله. الذلول هو الجمل المروّض السهل القياد، بينما الصعب هو الجمل الجامح الذي يحتاج شجاعة ومهارة لامتطائه. وعليه، فالمعنى واضح: من لا يملك الخيار السهل، عليه أن يواجه الصعوبات بكل ما أوتي من قوة.

لكن المثل يتجاوز المعنى الحرفي ليصبح فلسفة حياة. فالإنسان الذي لا تتوفر له الظروف المريحة، لا يملك ترف الانتظار أو التردد. بل عليه أن يحشد كل العزيمة التي في داخله ويخوض المعركة.

ركوب الصعب: فلسفة الإرادة والصمود

حين نتأمل عمق هذا القول، ندرك أنه ليس مجرد تبرير للمخاطرة، بل هو احتفاء بالإرادة الإنسانية. الحياة لا تمنح الجميع نفس الفرص، ولا توزع الأقدار بالتساوي. هناك من يولد ومعه كل المفاتيح، وآخرون يضطرون لصنع مفاتيحهم الخاصة من صخور الصعاب.

في هذا السياق، يصبح تحدي الصعاب فعلاً من أفعال الشجاعة الواعية. المرء الذي يجد نفسه أمام طريق وعر ليس له خيار سوى السير فيه، يكتشف في داخله قوى لم يكن يعلم بوجودها. كما قال أحد الحكماء: “الضرورات تكشف الطاقات الكامنة.”

علامات الإصرار على النجاح

الإصرار على النجاح ليس مجرد عناد أعمى، بل استراتيجية روحية تتطلب:

  • وضوح الرؤية: معرفة الهدف رغم ضبابية الطريق
  • الثبات الداخلي: القدرة على مواصلة المسير حين يتخلى الآخرون
  • المرونة الذكية: تعديل الأساليب دون التخلي عن الغاية
  • الإيمان بالذات: الثقة بأن داخلك من القوة ما يكفي لتجاوز المحنة

دروس من واقع الحياة

تاريخنا العربي والإسلامي مليء بنماذج لأناس امتطوا صهوة الصعاب فوصلوا إلى ما لم يصل إليه غيرهم. كانت العزيمة سلاحهم، والصبر زادهم، واليقين دليلهم. لم ينتظروا أن تُفتح لهم الأبواب، بل صنعوا أبوابهم بأيديهم.

أحدهم قال يوماً: “لو انتظرت حتى تتهيأ كل الظروف، لما فعلت شيئاً في حياتي.” هذه الجملة تختزل جوهر المثل. فالظروف المثالية نادراً ما تأتي، والذي ينتظرها قد يجد نفسه وقد فات الأوان.

كيف نطبق هذا المبدأ في عصرنا؟

في زمن تتسارع فيه التغيرات وتتعقد فيه الخيارات، يبقى مبدأ ركوب الصعب ذا راهنية مطلقة. إليك بعض التطبيقات العملية:

في مجال التعليم: الطالب الذي لا تتوفر له الإمكانيات المادية أو البيئة المناسبة، لكنه يصر على التفوق، يجسد المثل بأبهى صوره. يستيقظ قبل الفجر، يدرس تحت ضوء خافت، ويحول كل عقبة إلى درجة في سلم النجاح.

في ريادة الأعمال: كثير من المشاريع العظيمة بدأت من لا شيء، لأن أصحابها لم يكن لديهم “الذلول”، فاضطروا لركوب الصعب. المخاطرة المحسوبة، العمل الشاق، والإيمان بالفكرة، كانت كلها مفاتيح لنجاحات باهرة.

في العلاقات الإنسانية: أحياناً نجد أنفسنا في ظروف صعبة، علاقات معقدة، أو مواقف محرجة. ليس أمامنا سوى المواجهة بصدق وشجاعة، لأن الهروب ليس خياراً متاحاً.

الفرق بين الجرأة والتهور

من المهم التمييز بين ركوب الصعب كضرورة عاقلة، وبين التهور الذي يقود إلى الهلاك. المثل لا يدعو إلى المخاطرة العمياء، بل إلى الشجاعة المحسوبة عند غياب البدائل.

الحكيم يقيّم الموقف، يدرس الخيارات، فإن لم يجد سوى الطريق الصعب، يستعد له بكل ما يملك من حكمة وعزم. بينما المتهور يقفز في النار دون تفكير، مدفوعاً بالاندفاع لا بالضرورة.

خلاصة الحكمة

“يركب الصعب من لا ذلول له” ليس مجرد مثل قديم، بل فلسفة خالدة تعلمنا أن الحياة ليست دائماً عادلة في توزيع الفرص. لكن الإنسان يبقى حراً في اختيار موقفه من الصعوبات. يمكنه أن يستسلم ويشتكي من سوء حظه، أو يحول العقبات إلى تحديات يثبت من خلالها جدارته.

لذلك، حين تجد نفسك أمام طريق وعر، ولا خيار سهل أمامك، تذكر هذا المثل. اجمع شتات عزيمتك، استمد القوة من إصرارك، وامتطِ صهوة الصعب بثقة. فقد يكون في هذا الطريق الوعر، ما لا تجده في الطرق المعبّدة من مجد واكتشاف للذات.

في النهاية، تحدي الصعاب ليس عبئاً، بل امتياز يُمنح للأقوياء الذين رفضوا أن تحدد الظروف مصيرهم. فكن منهم، وليكن شعارك: إذا لم يكن لي ذلول، فسأركب الصعب وأروضه.