في مرآة الحكمة العربية، تتجلى الأمثال الشعبية كدرر منثورة على شاطئ الزمن، تحمل في طياتها خلاصة تجارب الأجيال ومعارفها. ومن بين هذه الدرر يلمع مثل “كُل كلبٍ ببابِه نَبّاح”، ذلك القول الذي يفضح الشجاعة الزائفة ويكشف حقيقة من يتظاهرون بالقوة في مناطق راحتهم فقط، بينما تذوب جرأتهم كالملح في الماء عند أول اختبار حقيقي.
المحتويات
جذور المثل في التراث العربي
ينبع هذا المثل من ملاحظة عميقة للسلوك البشري، حيث لاحظ أسلافنا كيف يتصرف الكلب بشراسة عند باب صاحبه، ينبح ويهدد كل عابر سبيل، لكنه حين يخرج من محيطه المألوف يصبح كائناً مختلفاً تماماً، مطأطئ الرأس، حذراً، خائفاً. هذه الصورة البلاغية البسيطة تحمل معاني فلسفية عميقة عن طبيعة الإنسان والمجتمع.
لقد استخدم العرب هذا المثل لوصف أولئك الذين يمارسون النفاق الاجتماعي، فيظهرون القوة أمام الضعفاء ويتملقون الأقوياء. إنها صورة حية لازدواجية الشخصية وانعدام الثبات على المبدأ.
الشجاعة الحقيقية والشجاعة الزائفة
ما الفرق بين الشجاع الحق والمتشدق بالبطولة؟
الشجاعة الحقيقية تظهر في المواقف الصعبة، حين تتساوى الكفتان وتشتد المحنة. أما صاحب الشجاعة الزائفة فهو كالممثل على خشبة مسرحه الخاص، يلعب دوره بإتقان أمام جمهور مختار، لكنه يفقد كل قدراته حين يواجه الواقع الحقيقي.
علامات الشجاعة الزائفة:
- الصوت العالي في الأماكن الآمنة: يرفع صاحبها صوته ويتباهى بقوته حين يكون محاطاً بمن يدعمونه
- الصمت المطبق عند المواجهة: يختفي بريق الجرأة عندما تستدعي الظروف موقفاً حقيقياً
- التذبذب في المواقف: لا ثبات لديه على رأي أو موقف، بل يتلون حسب المصلحة
- الهجوم على الضعفاء: يختار ضحاياه بعناية من الأضعف منه قوة أو مكانة
النفاق الاجتماعي وأقنعة الغرور
يرتبط هذا المثل ارتباطاً وثيقاً بظاهرة النفاق الاجتماعي التي تتجلى في المجتمعات بأشكال متعددة. فالمنافق يضع قناعاً مختلفاً لكل موقف، يتكلم بلسانين، ويمشي على طريقين متوازيين لا يلتقيان.
الغرور أيضاً يلعب دوراً محورياً في هذا السلوك، إذ يعتقد صاحب الشجاعة المزيفة أنه خدع الآخرين بمظهره القوي، غير مدرك أن الناس يرون حقيقته بوضوح. كما قال المتنبي في حكمته الخالدة: “إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه”.
ضعف الشخصية: الجذر الخفي
في عمق هذه الظاهرة يكمن ضعف الشخصية، ذلك العامل الأساسي الذي يدفع الإنسان للاختباء خلف الأقنعة. الشخصية الضعيفة تفتقر إلى:
الثقة بالنفس الحقيقية: فهي تعوض نقصها الداخلي بالتظاهر الخارجي
الشجاعة الأدبية: القدرة على قول الحق حتى لو كان مراً أو مكلفاً
الاستقلالية في التفكير: حيث يكون الشخص أسير آراء محيطه وخائفاً من الخروج عن المألوف
دروس من الحكمة القديمة
ماذا يعلمنا هذا المثل الخالد؟
أولاً، يدعونا إلى التواضع والصدق مع الذات. فالإنسان الحكيم لا يدعي ما ليس فيه، بل يعرف حدوده وإمكانياته ويتصرف وفقاً لها.
ثانياً، يحثنا على الثبات على المبدأ والموقف. القوة الحقيقية ليست في رفع الصوت عند الباب، بل في الوقوف بثبات عند كل المنعطفات.
ثالثاً، يكشف لنا أهمية الأصالة في التعامل مع الآخرين. المجتمعات السليمة تُبنى على الصدق والشفافية، لا على الأقنعة والمظاهر.
كيف نتجنب هذا الفخ؟
للخروج من دائرة النباح عند الباب وبناء شخصية حقيقية متزنة:
- ابدأ بمحاسبة النفس: راقب تصرفاتك في المواقف المختلفة، هل تتغير حسب الظروف؟
- اختبر شجاعتك: ضع نفسك في مواقف تتطلب موقفاً واضحاً وثبت عليه
- تعلم من الأخطاء: الاعتراف بالضعف هو أول خطوة نحو القوة الحقيقية
- اطلب الصدق من المقربين: اسأل من تثق بهم عن رأيهم الصريح في تصرفاتك
خاتمة تأملية
في نهاية المطاف، يبقى مثل “كُل كلبٍ ببابِه نَبّاح” مرآة نضعها أمام أنفسنا لنرى حقيقتنا بلا رتوش. هل نحن من هؤلاء الذين ينبحون عند أبوابهم فقط؟ أم أننا نملك الشجاعة لنكون أنفسنا في كل الأحوال والظروف؟
الحكمة تقول إن الشجاع من يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، متى يتقدم ومتى يتراجع، لكنه في جميع الأحوال يبقى صادقاً مع ذاته ومبادئه. فليكن همنا بناء شخصيات أصيلة لا أقنعة براقة، وشجاعة حقيقية لا مجرد نباح عند الأبواب.