“قُرونُ بُدْنٍ مالها عِقاء” – مثل عربي قديم يُضرب لقوم اجتمعوا بلا قائد يوجههم، حيث البُدْن هي الوعول المُسِنَّة والعِقَاء هو الطرف المحدد من القرن. هذا المثل ينطبق بشكل صارخ على واقع الأمة اليوم في ظل غياب القيادة القادرة على جمع الصف وتوحيد الكلمة. وبينما تستعر الحرب الإسرائيلية وتشتد التحديات، يزداد وضوح الحاجة الماسة إلى الوحدة العربية التي تجعل من قوة الصف درعاً وسلاحاً في مواجهة الأزمات.
المحتويات
جذور الحكمة في التراث العربي
نشأ هذا المثل من بيئة الصحراء، حيث كان البدو يعرفون أن الوعول المُسِنَّة رغم قوتها الفردية تبقى عاجزة عن الدفاع عن نفسها دون قيادة حكيمة توجه قرونها الحادة. كذلك الأمر مع الجماعات البشرية – فالقوة الفردية، مهما بلغت، تضيع سدى بلا توجيه قيادي فعال.
علاوة على ذلك، استوحى أجدادنا من هذا المثل درساً بليغاً: الاجتماع بلا قائد يؤدي حتماً للفوضى والتشتت، مما يجعل الجماعة فريسة سهلة لأعدائها مهما كانت قوتها الظاهرية.
واقع غياب القيادة في العالم العربي
يتجلى مفهوم غياب القيادة اليوم في صور متعددة عبر المنطقة العربية. فعلى الصعيد السياسي، نشهد تشرذماً واضحاً في المواقف والرؤى تجاه القضايا المصيرية. بينما على المستوى الاجتماعي، نرى انقساماً في الولاءات والأولويات.
هذا التشتت ينعكس بوضوح عند مواجهة التحديات الكبرى، خاصة أمام العدو الخارجي والفتن الداخلية. فبدلاً من الوقوف صفاً واحداً، نجد استجابات متباينة وأحياناً متضاربة تضعف الموقف الإجمالي للأمة.
أمثلة معاصرة على التشرذم
- تباين المواقف من القضايا الإقليمية الحساسة
- عدم التنسيق في السياسات الاقتصادية والدبلوماسية
- ضعف التضامن في مواجهة التهديدات المشتركة
- تفاوت مستويات الدعم للقضايا العادلة
الحرب الإسرائيلية: نموذج صارخ لاستغلال الضعف
تمثل الحرب الإسرائيلية المستمرة مثالاً واضحاً على كيفية استغلال العدو لحالة الانقسام وغياب الرؤية الموحدة. لقد نجحت إسرائيل طوال عقود في اللعب على التناقضات العربية، مستفيدة من عدم وجود استراتيجية عربية شاملة للمقاومة.
نتيجة لذلك، استمر الاحتلال وتوسع الاستيطان بلا هوادة، بينما تراجعت القضية الفلسطينية في سلم الأولويات العربية. هذا الواقع المرير انعكس سلباً على الوعي الشعبي العربي، مما ولّد شعوراً عميقاً بالإحباط الجماهيري وفقدان الثقة في القدرة على التغيير.
دروس التاريخ: عندما كانت القيادة حاضرة
يحفل التاريخ العربي والإسلامي بأمثلة مشرقة لقادة استطاعوا توحيد الصف فحققوا انتصارات عظيمة. صلاح الدين الأيوبي نموذج بارز في هذا المجال، حيث نجح في جمع شمل المسلمين تحت راية واحدة واستطاع استرداد القدس من الصليبيين.
ما يميز هؤلاء القادة هو قدرتهم على تجاوز الخلافات الجانبية والتركيز على الهدف الأسمى. إضافة إلى ذلك، امتلكوا رؤية استراتيجية واضحة وحنكة سياسية مكّنتهم من بناء تحالفات قوية ومستدامة.
مقارنة بالماضي المجيد، نجد اليوم فراغاً قيادياً واضحاً يتطلب حلولاً جذرية وإرادة حقيقية للتغيير.
نحو قيادة عربية جديدة
تتطلب المرحلة الراهنة قيادة بمواصفات خاصة تناسب تحديات العصر. هذه القيادة يجب أن تتميز بـ:
الحكمة والبصيرة: القدرة على قراءة المشهد بعمق واتخاذ قرارات استراتيجية صائبة.
الشجاعة والإقدام: عدم التردد في اتخاذ مواقف حاسمة حتى لو كانت مكلفة على المدى القصير.
الرؤية الاستراتيجية: وضع أهداف بعيدة المدى والعمل المنهجي لتحقيقها.
القدرة على التوحيد: مهارة في بناء الإجماع وتجاوز الخلافات الثانوية.
في المقابل، للشعوب دور محوري في الدفع نحو ظهور هذه القيادة من خلال المطالبة بالإصلاح ودعم الأصوات الواعدة التي تحمل مشروعاً وحدوياً حقيقياً.
الطريق نحو استعادة قوة الصف
لا يمكن للأمة أن تستعيد مكانتها دون معالجة جذرية لمشكلة غياب القيادة. هذا يتطلب جهوداً متضافرة على عدة مستويات:
- التعليم والتربية: إعداد أجيال مؤمنة بالوحدة العربية ومتسلحة بالعلم والمعرفة
- الإعلام والثقافة: نشر ثقافة الوحدة ومحاربة خطابات التفرقة والتشرذم
- التبادل والتعاون: تعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية بين البلدان العربية
- المؤسسات المشتركة: بناء هياكل فعالة للتنسيق والتعاون في المجالات الحيوية
خاتمة: من التشتت إلى الوحدة
في ظل الأحداث الراهنة والتحديات المتنامية، يتضح أن غياب القيادة لا يولّد سوى التشتت والضعف، تماماً كما عبّر المثل العربي “قُرونُ بُدْنٍ مالها عِقاء”. الدروس المستخلصة من التاريخ والواقع المعاصر تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الوحدة العربية وبناء قوة الصف هما السبيل الوحيد لاستعادة الكرامة ومواجهة الحرب الإسرائيلية وما تحمله من تهديدات لمستقبل الأمة.
إن الخروج من حالة “قُرونُ بُدْنٍ مالها عِقاء” ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى إرادة حقيقية للتغيير وعمل دؤوب لإنتاج جيل جديد من القادة القادرين على حمل راية الأمة نحو مستقبل أفضل.