ابن سينا: سيرة أبو الطب الحديث وأهم إسهاماته العلمية

مقدمة: الشيخ الرئيس وبصمته الخالدة في تاريخ العلوم

يُعدّ ابن سينا، أو كما يُعرف في الغرب باسم “أفيسينا”، من أبرز العلماء المسلمين الذين تركوا أثراً عميقاً في مسيرة الإنسانية العلمية والمعرفية. لم يكن مجرد طبيب عادي، بل كان موسوعة علمية متكاملة جمعت بين الطب والفلسفة والرياضيات والفلك والمنطق والموسيقى، مما جعله يُلقب بـ “الشيخ الرئيس” و”أبو الطب الحديث”.

تُظهر سيرة ابن سينا قصة عالم استثنائي استطاع أن يبني صرحاً معرفياً متكاملاً في عصر ذهبي للحضارة الإسلامية، وأن يصنع نقلة نوعية في مجال الطب العربي والعالمي من خلال مؤلفاته التي ظلت مراجع أساسية لقرون طويلة. وعلى رأسها كتاب “القانون في الطب” الذي بقي المرجع الرئيسي للتعليم الطبي في أوروبا لأكثر من خمسة قرون.

في هذا المقال، سنخوض في رحلة استكشافية لحياة هذا العالم الفذ ومسيرته العلمية المذهلة، وكيف استطاع أن يجمع بين العلوم المختلفة في نسيج معرفي متكامل، وكيف أثّرت إسهاماته في تطور الطب والعلوم الإنسانية حتى عصرنا الحاضر.

نشأة ابن سينا وتكوينه العلمي المبكر

مولده ونشأته الأولى

ولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا في قرية أفشنة بالقرب من بخارى (في أوزبكستان حالياً) عام 370هـ الموافق 980م، لأب من بلخ كان يعمل والياً في أحد أقاليم الدولة السامانية. نشأ ابن سينا في أسرة ميسورة الحال اهتمت بتعليمه منذ صغره، وقد ساعده ذلك على التفرغ لطلب العلم في سن مبكرة.

رحلته مع العلم وذكاؤه الاستثنائي

تميز ابن سينا بذكاء حاد وقدرة استثنائية على الحفظ، فقد حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، وأتقن الأدب والرياضيات في سن مبكرة. تتلمذ على يد العديد من علماء عصره، ومنهم:

• أبو عبد الله الناتلي في المنطق والفلسفة
• أبو منصور الحسن بن نوح القمري في الطب
• أبو سهل المسيحي في العلوم الطبيعية

وفي سن السادسة عشرة، بدأ ابن سينا في دراسة الطب بشكل مكثف، وسرعان ما برع فيه حتى أصبح طبيباً مشهوراً في سن مبكرة. يقول في سيرته الذاتية: “ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرؤون علي علم الطب”.

قصة معالجته للأمير نوح بن منصور

من القصص المشهورة في حياة ابن سينا أنه عندما مرض الأمير السامانى نوح بن منصور بمرض استعصى على أطباء بلاطه، استدعوا ابن سينا الذي كان شاباً لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره. نجح ابن سينا في معالجة الأمير، مما جعله يحظى بمكانة مرموقة في البلاط، وأتاح له الدخول إلى المكتبة الملكية الغنية بالكتب النادرة في شتى المجالات، فنهل منها ما استطاع.

رحلات ابن سينا ومحطات حياته

حياة متنقلة في ظل اضطرابات سياسية

عاش ابن سينا في فترة شهدت اضطرابات سياسية كبيرة في المشرق الإسلامي، مما جعل حياته حافلة بالترحال والتنقل بين مدن وممالك مختلفة. بعد سقوط الدولة السامانية على يد الغزنويين حوالي عام 1002م، غادر ابن سينا بخارى متجهاً إلى:

1. أورجنش: عمل في بلاط خوارزمشاه علي بن مأمون كطبيب
2. الجرجانية: التقى فيها بتلميذه المخلص أبو عبيد الجوزجاني
3. جرجان: حيث بدأ كتابة “القانون في الطب”
4. الري: عمل في بلاط مجد الدولة البويهي
5. همدان: أصبح وزيراً لشمس الدولة البويهي وطبيبه الخاص
6. أصفهان: استقر بها في أواخر حياته تحت رعاية علاء الدولة الكاكويه

تجاربه كطبيب ووزير وعالم

تنوعت أدوار ابن سينا في حياته، فلم يكن مجرد عالم منعزل، بل شارك في الحياة السياسية والاجتماعية لعصره:

• عمل طبيباً للملوك والأمراء في عدة بلاطات
• تولى منصب الوزارة في همدان تحت حكم شمس الدولة البويهي
• تعرض للسجن والمطاردة بسبب التقلبات السياسية
• كان يدير حلقات العلم ويعلّم تلاميذه أثناء ترحاله

يروي تلميذه الجوزجاني أن ابن سينا كان يكتب في النهار وينظر في شؤون الناس والدولة، وفي الليل يجمع تلاميذه للقراءة والبحث، وكان يكتب مؤلفاته أحياناً وهو على ظهر الخيل أثناء الترحال.

نمط حياته وعاداته الشخصية

كان ابن سينا يتمتع بحيوية فائقة وطاقة عمل هائلة، وكان نمط حياته مزيجاً من:

• الانغماس في الدراسة والبحث والتأليف
• المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية
• تدريس العلوم لتلاميذه ومناقشة المسائل العلمية

لكن هذا الإيقاع المتسارع للحياة أثّر على صحته، فيذكر الجوزجاني أن ابن سينا كان يعاني من علل مزمنة في الجهاز الهضمي، وكان يعالج نفسه بنفسه. يقول ابن سينا عن نفسه: “كنت لا أنام الليل بطوله ولا أشتغل بالنهار بغيره، حتى ضعفت قواي وعجزت عن بعض الأعمال”.

إسهامات ابن سينا في الطب العربي

كتاب القانون في الطب: الموسوعة الطبية الشاملة

يُعدّ كتاب “القانون في الطب” أعظم إنجازات ابن سينا الطبية وأكثرها تأثيراً في تاريخ الطب. يتكون الكتاب من خمسة أجزاء رئيسية:

1. الكتاب الأول: يتناول المبادئ العامة للطب والتشريح ووظائف الأعضاء والصحة العامة
2. الكتاب الثاني: يختص بالأدوية المفردة وخصائصها
3. الكتاب الثالث: يبحث في أمراض الأعضاء مرتبة من الرأس إلى القدم
4. الكتاب الرابع: يتناول الأمراض التي لا تختص بعضو معين كالحميات والأورام
5. الكتاب الخامس: يختص بالأدوية المركبة وطرق تحضيرها

تميز كتاب القانون بالمنهجية العلمية الدقيقة والترتيب المنطقي للمعلومات، مما جعله مرجعاً أساسياً في التعليم الطبي في العالم الإسلامي وأوروبا لقرون عديدة.

أهم اكتشافاته وإنجازاته الطبية

قدم ابن سينا إسهامات رائدة في مجالات طبية متعددة، منها:

تأثير ابن سينا في تطور الطب الوقائي

كان ابن سينا سباقاً في مجال الطب الوقائي، حيث وضع أسساً مهمة للوقاية من الأمراض مثل:

• التأكيد على أهمية البيئة والهواء النقي للصحة
• العناية بجودة المياه وتنقيتها
• الاهتمام بالنظام الغذائي المتوازن
• التشديد على أهمية الرياضة والنشاط البدني
• تنظيم النوم والراحة

يقول في القانون: “غاية الطب حفظ الصحة موجودة والاسترداد مفقودة”، مؤكداً أن الوقاية خير من العلاج.

فلسفة ابن سينا ومنهجه العلمي

المزج بين الفلسفة والطب

من أهم ما يميز منهج ابن سينا هو قدرته على المزج بين الفلسفة والطب في منظومة معرفية متكاملة. كان يرى أن الطب علم نظري وعملي في آن واحد، وأن الطبيب الحقيقي يجب أن يكون فيلسوفاً أيضاً ليتمكن من فهم أسباب الأمراض وطبيعة الإنسان.

من مظاهر هذا المزج في فلسفة ابن سينا:

• ربط نظرية الأخلاط الأربعة بالفلسفة الطبيعية
• تفسير وظائف الأعضاء وفق المبادئ الفلسفية للنفس
• معالجة المرض كظاهرة تخرج عن التوازن الطبيعي
• تطبيق المنطق والاستدلال في تشخيص الأمراض وعلاجها

نظرية المعرفة عند ابن سينا

طور ابن سينا نظرية متكاملة في المعرفة جمع فيها بين العقل والتجربة، وكانت أساساً لمنهجه العلمي. وفق هذه النظرية:

1. الحواس: تمثل المرحلة الأولى للمعرفة وهي مصدر المعلومات الأولية
2. الخيال: يحفظ الصور المحسوسة ويستدعيها عند الحاجة
3. التفكير: يجرد المعاني من الصور المحسوسة
4. العقل الفعال: يتصل بالنفس البشرية ويفيض عليها المعرفة الكلية

اعتمد ابن سينا على هذه النظرية في منهجه الطبي، فكان يجمع بين الملاحظة الدقيقة والاستنتاج العقلي.

تأثير الفلسفة اليونانية وتطويرها

تأثر ابن سينا بالفلسفة اليونانية، خاصة أعمال أرسطو وجالينوس وأبقراط، لكنه لم يكن مجرد ناقل أو شارح، بل طوّر هذه الأفكار وأضاف إليها إسهامات أصيلة:

• نقد نظريات أرسطو في الفيزياء وعدّل بعضها
• طوّر نظرية المزاج من جالينوس وربطها بتأثير البيئة والمناخ
• أضاف للنظرية الأبقراطية في الأخلاط مفاهيم جديدة في التشخيص والعلاج
• صاغ نظرية متكاملة في النفس تجمع بين الفلسفة والطب

يقول في كتابه “النجاة”: “لا يمكن للإنسان أن يصل إلى الحقيقة بالتقليد وحده، بل لابد من النظر والتأمل والبحث”.

تأثير ابن سينا على الطب والعلوم في الغرب

انتقال الإرث العلمي لابن سينا إلى أوروبا

ترجمة أعماله إلى اللاتينية وانتشارها في أوروبا

لعبت ترجمة أعمال ابن سينا إلى اللاتينية دوراً محورياً في نقل علومه إلى أوروبا ونشرها هناك، مما مهد لعصر النهضة الأوروبية:

• ترجم “القانون في الطب” إلى اللاتينية على يد جيرارد الكريموني في طليطلة عام 1187م
• ترجم أندريا ألباجو أجزاء أخرى من القانون في القرن الرابع عشر
• طبع الكتاب لأول مرة في روما عام 1593م
• صدرت للقانون أكثر من 36 طبعة لاتينية كاملة بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر
• ترجمت أجزاء من كتاب “الشفاء” الفلسفي إلى اللاتينية (خاصة الطبيعيات والإلهيات) على يد دومينيكوس جوندي سالينوس
• ترجمت بعض أعماله إلى العبرية واستفاد منها علماء اليهود في العصور الوسطى

المدارس السينوية في أوروبا

تشكلت مدارس فكرية في أوروبا متأثرة بفكر ابن سينا، خاصة في:

• المدرسة السينوية في جنوب فرنسا
• مدرسة باريس الفلسفية
• مدرسة أوكسفورد التجريبية
• المدرسة البندقية الطبية-الفلسفية

أثر القانون في تطوير التعليم الطبي الغربي

تدريس كتاب القانون في الجامعات الأوروبية

أصبح كتاب القانون المرجع الأساسي لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية لقرون عديدة:

• كان النص الرئيسي في جامعة مونبلييه الفرنسية التي أسست عام 1220م
• اعتمد كمقرر إلزامي في جامعات بادوا وبولونيا في إيطاليا
• ظل يدرّس في جامعة لوفان البلجيكية حتى عام 1657م
• استمر تدريسه في بعض الجامعات حتى القرن الثامن عشر

يقول المؤرخ الطبي دوايتز: “ظل كتاب القانون لابن سينا الدليل العملي للأطباء في أوروبا لمدة تزيد على خمسة قرون”. ويضيف المستشرق الفرنسي لوكليرك: “كان القانون هو الإنجيل الطبي ​​لمن أراد أن يصبح طبيباً في أوروبا العصور الوسطى”.

التأثير في منهجية التعليم الطبي

أثر منهج ابن سينا في هيكلة التعليم الطبي الأوروبي من خلال:

• الجمع بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي
• التدرج في تعليم الطب من العام إلى الخاص
• تقسيم الطب إلى فروع متخصصة
• التأكيد على أهمية الصيدلة والكيمياء للطبيب

انعكاسات فلسفته على الفكر الغربي

لم يقتصر تأثير ابن سينا على المجال الطبي، بل امتد ليشمل الفلسفة والفكر الغربي:

• اللاهوت المسيحي: تأثر توما الأكويني بنظرية ابن سينا في العقل والنفس والوجود، وأدمج العديد من أفكاره في فلسفته اللاهوتية
• العلم التجريبي: استفاد روجر بيكون من منهجه التجريبي في الملاحظة والاستنتاج
• الفلسفة الحديثة: تأثر ديكارت بنظريته في اليقين المعرفي والشك المنهجي
• الفلسفة العقلية: استلهم سبينوزا بعض أفكاره في وحدة الوجود والعلية
• الطب النفسي: أثرت نظريته في الأمراض النفسية على تطور الطب النفسي في أوروبا

يقول المستشرق كارل بروكلمان: “ما من فيلسوف مسلم كان له من التأثير في الفكر الأوروبي مثل ما كان لابن سينا”.

مؤلفات ابن سينا الأخرى وإسهاماته المتنوعة

الموسوعات العلمية والفلسفية

كتاب الشفاء: الموسوعة الفلسفية الشاملة

كتاب “الشفاء” هو ثاني أعظم أعمال ابن سينا بعد “القانون”، وهو موسوعة فلسفية ضخمة تضم 18 مجلداً تتناول مختلف العلوم المعروفة في عصره:

1. المنطق: يتناول فيه القياس والبرهان والجدل والخطابة
2. الطبيعيات: تشمل السماع الطبيعي والسماء والعالم والكون والفساد
3. الرياضيات: تشمل الهندسة والحساب والفلك والموسيقى
4. الإلهيات: تبحث في الوجود والجوهر والعرض والعلة والمعلول

كتاب النجاة

يعتبر “النجاة” مختصراً لكتاب “الشفاء”، وهو أكثر تركيزاً على المبادئ الأساسية للفلسفة والمنطق. صاغه ابن سينا بأسلوب أكثر سهولة ليكون متاحاً لطلاب العلم المبتدئين.

الإشارات والتنبيهات

من أواخر مؤلفات ابن سينا الفلسفية، وفيه يلخص خلاصة فكره الفلسفي والمنطقي، ويتميز بأسلوب إشاري رمزي يخاطب به القارئ المتمرس في الفلسفة.

إسهاماته في علوم أخرى

تنوعت إسهامات ابن سينا في مجالات علمية متعددة، مما يؤكد موسوعيته العلمية:

العلوم الطبيعية

• الكيمياء: درس خصائص المعادن وتفاعلاتها وطور طرقاً لتحضير الأدوية. في رسالته “الكيمياء” وضع أساساً لما عُرف لاحقاً بالكيمياء الصيدلانية.
• الفيزياء: قدم نظريات في الحركة تقترب من مفهوم القصور الذاتي، ودرس الضوء والصوت والحرارة بطريقة منهجية.
• الجيولوجيا: شرح تكون الجبال والأنهار والزلازل والمعادن في الجزء المخصص للمعادن من كتاب “الشفاء”.

العلوم الرياضية والفلكية

• الفلك: قدم نظريات في حركة الكواكب وحاول تصحيح بعض أخطاء بطليموس، وطور آلات رصد فلكية جديدة.
• الرياضيات: قدم إسهامات في الهندسة وعلم المثلثات، وشرح العلاقة بين الموسيقى والرياضيات.

العلوم الإنسانية

• علم النفس: طور نظرية متكاملة في القوى النفسية وعلاقتها بوظائف الأعضاء، وصنف النفس إلى نباتية وحيوانية وناطقة.
• الأخلاق: وضع نظرية أخلاقية تربط بين الصحة الجسدية والنفسية والسلوك الأخلاقي.
• الموسيقى: ألف رسالة في الموسيقى وشرح تأثيرها على النفس والعلاج بها.

الطب المتخصص

• طب الأطفال: خصص أجزاء من “القانون” لأمراض الأطفال وعلاجها، مما يجعله من رواد طب الأطفال.
• علم الأوبئة: درس الأمراض المعدية وانتشارها وطرق الوقاية منها، خاصة في كتابه “دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية”.
• الجراحة: وصف عدداً من العمليات الجراحية وابتكر أدوات خاصة بها.

أسلوبه في التعليم ونقل المعرفة

اتبع ابن سينا أساليب متنوعة ومبتكرة في التعليم ونقل المعرفة، جعلته من رواد طرق التدريس في الحضارة الإسلامية:

المنهجية التعليمية

• استخدام القصة والتمثيل في شرح المفاهيم المجردة
• تبسيط المعلومات المعقدة وترتيبها بشكل منطقي متدرج
• ربط النظرية بالتطبيق العملي خاصة في مجال الطب
• تشجيع التفكير النقدي والتجربة لدى تلاميذه

الطرق التعليمية المبتكرة

• الأراجيز العلمية: نظم العلوم في قصائد شعرية لتسهيل حفظها واستذكارها، مثل أرجوزته المشهورة في الطب التي تتكون من 1326 بيتاً.
• التدرج في المؤلفات: صنف كتبه بأسلوب متدرج يناسب مستويات المتعلمين المختلفة:
  • كتب مختصرة للمبتدئين (مثل: الموجز، الوجيز)
  • كتب متوسطة (مثل: النجاة)
  • موسوعات تفصيلية للمتخصصين (مثل: الشفاء، القانون)
• المناظرات العلمية: اعتمد أسلوب الحوار والمناظرة مع تلاميذه وزملائه لتعميق الفهم وتنمية ملكة النقد

أساليب تعليمية عملية

• التعلم بالممارسة: كان يصطحب تلاميذه لمشاهدة الحالات المرضية وعلاجها
• الرحلات العلمية: استغل ترحاله بين المدن لتعليم تلاميذه ملاحظة الظواهر الطبيعية
• التأليف المشترك: أشرك بعض تلاميذه المتقدمين في تأليف بعض كتبه

يقول الجوزجاني: “كان الشيخ الرئيس يقرأ كتاب الشفاء نهاراً لتلاميذه، وليلاً يجتمع مع خواص تلامذته لمذاكرة العلوم والمناظرة فيها، وكان يملي عليهم ما يستفيدون منه في تلك المجالس”.

نهاية حياة ابن سينا وإرثه الخالد

وفاته وظروفها

توفي ابن سينا في مدينة همدان عام 428هـ الموافق 1037م عن عمر يناهز 58 عاماً بعد معاناة من مرض القولون. تذكر المصادر التاريخية أن ابن سينا أصيب بمرض شديد أثناء سفره مع الأمير علاء الدولة الكاكويه، وحاول معالجة نفسه، لكن حالته تدهورت بسبب إرهاقه الشديد وكثرة أسفاره.

يروي الجوزجاني أن ابن سينا في أواخر أيامه أدرك دنو أجله، فتصدق بماله على الفقراء وأعتق غلمانه، وكان يختم القرآن كل ثلاثة أيام. وقيل إن آخر كلماته كانت: “كل ما عرفناه هو أننا لا نعرف شيئاً”.

تلاميذه والذين حملوا علمه

ترك ابن سينا إرثاً علمياً عظيماً حمله تلاميذه من بعده، ومن أشهر تلاميذه:

• أبو عبيد الجوزجاني: الذي لازمه طويلاً ودوّن سيرته الذاتية ونشر بعض كتبه
• بهمنيار بن المرزبان: الذي شرح فلسفة ابن سينا في كتاب “التحصيل”
• أبو عبد الله المعصومي: الذي نقل علم الطب عنه
• أبو الحسن بهمنيار: الذي كان له دور في نشر فلسفته

انتشر علم ابن سينا عبر هؤلاء التلاميذ وغيرهم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ثم انتقل إلى أوروبا من خلال الترجمات والشروح.

مكانته في تاريخ العلوم والحضارة الإنسانية

يحتل ابن سينا مكانة فريدة في تاريخ العلوم والحضارة الإنسانية:

“لقد كان ابن سينا ظاهرة فريدة في تاريخ الفكر الإنساني، فهو طبيب وفيلسوف وعالم موسوعي استطاع أن يجمع بين مختلف العلوم في عصره وأن يطورها ويضيف إليها” – المستشرق الألماني ماكس مايرهوف

• اعتبرته منظمة اليونسكو من رموز الثقافة العالمية
• أطلق اسمه على فوهة على سطح القمر تكريماً له
• أنشئت مراكز بحثية ومؤسسات علمية تحمل اسمه في مختلف أنحاء العالم
• ما زالت كتبه تدرس وتحقق وتترجم إلى اللغات المختلفة

ابن سينا في الثقافة المعاصرة

تكريم ابن سينا في العصر الحديث

يحظى ابن سينا بتكريم واسع في العصر الحديث يعكس مكانته العلمية البارزة:

• المؤسسات العلمية: أنشئت جامعات ومراكز بحثية تحمل اسمه في عدة دول إسلامية
• المتاحف: خصصت متاحف طبية أقساماً خاصة لعرض إسهاماته ومخطوطاته
• المؤتمرات العلمية: تُعقد مؤتمرات دولية دورية لدراسة فكره وإسهاماته
• اليونسكو: أدرجته ضمن قائمة الشخصيات العالمية المؤثرة في الثقافة الإنسانية، واحتفلت بمرور ألف عام على ميلاده
• التكريم الفلكي: أطلق اسمه على فوهة بركانية على سطح القمر تقديراً لإسهاماته العلمية

ابن سينا في الدراسات الأكاديمية الحديثة

تناولت الدراسات الأكاديمية المعاصرة فكر ابن سينا من زوايا متعددة:

• دراسة منهجه الطبي في ضوء التطورات الطبية الحديثة
• تحليل نظرياته الفلسفية ومقارنتها بالفلسفات المعاصرة
• البحث في تأثيره على تطور المناهج العلمية
• تحقيق مخطوطاته ونشرها بلغات متعددة

يقول المستشرق الفرنسي هنري كوربان: “تقدم فلسفة ابن سينا حلولاً ما زالت صالحة للتفكير في معضلات الفكر المعاصر”.

خاتمة: الدروس المستفادة من حياة ابن سينا

دروس ملهمة للأجيال المعاصرة

تقدم سيرة ابن سينا دروساً ملهمة للأجيال المعاصرة، منها:

1. شمولية المعرفة: أهمية الجمع بين التخصصات المختلفة وعدم الانغلاق في تخصص واحد
2. التوازن بين النظرية والتطبيق: ربط العلم النظري بالممارسة العملية
3. استمرارية التعلم: استمر ابن سينا في التعلم والبحث حتى آخر أيام حياته
4. المثابرة رغم الصعاب: لم تمنعه الظروف السياسية المضطربة والترحال من مواصلة البحث والتأليف
5. المنهجية العلمية: اعتماد الملاحظة والتجربة والبرهان المنطقي في البحث العلمي

ابن سينا وتحديات العلم المعاصر

في عصرنا الحاضر، تزداد الحاجة إلى استلهام منهج ابن سينا في:

• التكامل المعرفي: في ظل التخصص المفرط الذي يطبع العلوم الحديثة
• أخلاقيات الطب: في زمن تتسارع فيه التقنيات الطبية
• التفكير النقدي: في عصر تزاحم فيه المعلومات وتتضارب
• التوازن بين المادية والروحانية: في حضارة تطغى عليها النزعة المادية

كلمة ختامية

لقد كان ابن سينا حلقة مهمة في سلسلة المعرفة البشرية، استوعب علوم من سبقوه، وأضاف إليها، وقدمها لمن بعده في صورة منهجية متكاملة، ليظل اسمه خالداً في سجل العلم والمعرفة الإنسانية.

يمثل إرث ابن سينا جسراً يربط بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وبين الماضي والحاضر، معلناً أن المعرفة الإنسانية سلسلة متصلة الحلقات تتناقلها الأمم وتضيف إليها عبر العصور.

ختاماً، تبقى الدعوة مفتوحة لإعادة قراءة تراث ابن سينا بعيون معاصرة، والاستفادة من منهجه في التكامل المعرفي والجمع بين العلم والأخلاق، للإسهام في بناء نهضة علمية تستلهم قيمه السامية ومنهجه التكاملي لبناء مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.

المراجع والمصادر

1. ابن أبي أصيبعة “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”
2. القفطي “إخبار العلماء بأخبار الحكماء”
3. ابن سينا “القانون في الطب”، تحقيق محمد أمين الضناوي
4. ابن سينا “الشفاء”، تحقيق إبراهيم مدكور
5. ماكس مايرهوف “التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية”
6. مانفريد أولمان “الطب الإسلامي”
7. حسين نصر “ثلاثة حكماء مسلمين”
8. جورج سارتون “تاريخ العلم”
9. فؤاد سزكين “تاريخ التراث العربي”
10. جوليا باولي “ابن سينا والقانون في الطب”
11. محمد كامل حسين “موسوعة أعلام الطب العرب”
12. المؤتمر العالمي عن ابن سينا، “أبحاث ودراسات عن ابن سينا” (اليونسكو، 2005)
13. عبد الرحمن بدوي “ابن سينا والفلسفة الشرقية”