في زمن تنقلب فيه المقاييس وتتبدل القيم، يبرز مثل عربي قديم كمرآة صادقة لواقع مرير عاشته الأمم عبر التاريخ. “إن البُغاث بأرضنا يستنسرُ” ليس مجرد عبارة ساخرة، بل صرخة حكيمة تفضح زمانًا يتقدم فيه من لا يستحق، ويعلو فيه صوت من لا قيمة له. هذا المثل يجسد ظاهرة خطيرة: تسلط الذليل على رقاب الأحرار، وصعود الضعفاء إلى مراتب لم يبلغوها بجدارة.
المحتويات
جذور المثل وسياقه التاريخي
يعود هذا المثل إلى عصور عربية قديمة، حيث كان البُغاث – وهو طائر صغير ضعيف من جوارح الطير – رمزًا للضعف والهوان. أما النسر فيمثل القوة والسؤدد والعلو. حين يستنسر البُغاث، أي يتصرف كنسر ويدعي مكانته، فإن ذلك يعني انهيار المعايير الطبيعية للأمور.
استخدم العرب هذا التعبير لوصف الأزمنة التي يسود فيها الجهال على ذوي العلم. يصور المثل انقلاب الموازين الاجتماعية والأخلاقية، حيث ينال الوضيع ما لا يستحق من مكانة وسلطان.
دلالات المثل في عصرنا الحاضر
تسلط من لا كفاءة له
يكتسب هذا المثل بعدًا معاصرًا حين نشهد صعود أشخاص إلى مواقع المسؤولية دون أن يمتلكوا المؤهلات الحقيقية. تتجلى هذه الظاهرة في:
- المحسوبية والمجاملات: تعيين الموظف لقرابته أو صداقته لا لكفاءته
- غياب معايير الجدارة: عندما تهميش الخبرة والعلم لصالح اعتبارات أخرى
- الصعود السريع غير المبرر: حين يحقق البعض نجاحات ليست نتاج جهد حقيقي
ضعف القيم وانهيار المعايير
تنعكس حكمة هذا المثل في مجتمعات فقدت بوصلتها الأخلاقية. حيث يصبح المال هو المعيار الوحيد للنجاح، بينما تتقهقر القيم الإنسانية النبيلة. ويتسيد الانتهازيون ساحة العمل العام، ويتأخر أصحاب الرأي الصائب والمواقف الشجاعة.
مظاهر انقلاب الموازين في حياتنا
تتعدد صور “استنسار البُغاث” في واقعنا المعاصر، ومنها:
في ميدان العمل: بينما ينال المتملقون الترقيات يبقى المخلصون في أماكنهم. ويحصل من يجيد المظاهر على الفرص، بينما لا ينال أصحاب الإنجازات الحقيقية التقدير المستحق.
في الإعلام والشهرة: يصبح التافهون نجومًا تستحوذ على المشهد، فيما يطال التهميش والنسيان العلماء والمفكرين. فتسود ثقافة السطحية، وتتراجع القيمة الحقيقية للمحتوى الهادف.
في العلاقات الاجتماعية: يحظى الأثرياء بالتقدير والاحترام مهما كانت مصادر ثرواتهم، بينما يُحتقَر الفقير الشريف. وهكذا تُقاس المكانة بالمظاهر لا بالجوهر.
كيف نواجه هذه الظاهرة؟
تستدعي مواجهة تسلط الذليل وعيًا جماعيًا وجهودًا فردية متضافرة:
على المستوى الشخصي
احتفظ بمعاييرك الخاصة ولا تدع الواقع المنحرف يؤثر على قيمك. اسعَ للتميز الحقيقي، وابنِ نجاحك على أسس صلبة من العلم والأخلاق. لا تُقلِّد “البُغاث” في محاولاتهم للتظاهر بما ليسوا عليه.
على المستوى المجتمعي
يتطلب تصحيح هذا الخلل إحياء ثقافة التقدير الحقيقي للكفاءات. ينبغي أن نعيد الاعتبار للعلم والخبرة والأخلاق كمعايير أساسية للتقييم. من الضروري أيضًا أن نربي أجيالنا على قيم الاستحقاق والجدارة.
خلاصة التأمل
يبقى مثل “إن البُغاث بأرضنا يستنسرُ” درسًا خالدًا في فهم ديناميكيات المجتمعات وأزماتها. يحذرنا من خطورة انقلاب المعايير، ويدعونا للتمسك بالقيم الأصيلة مهما تغيرت الأحوال.
حين نفهم عمق هذه الحكمة العربية، ندرك أن الحل يبدأ من داخلنا: بالتزامنا الشخصي بالتميز الحقيقي، ورفضنا للمساومة على المبادئ. لن يستمر “البُغاث” في استنساره إلا إذا سمحنا له بذلك، ولن تنقلب الموازين إلا إذا تخلينا عن دورنا في حفظها مستقيمة.

