رجل واقف أمام نافذة مضيئة، يظهر من الخلف كظل صامت في وضع تأملي، يرمز للعزلة والحزن والتأمل في المعاناة.

أيمن العتوم: الكاتب الذي أعطى صوتاً لصرخات المعتقلين السوريين

في عالم تتضارب فيه الأصوات وتختلط فيه الحقائق بالأكاذيب، تبرز شخصيات استثنائية تحمل على عاتقها مسؤولية توثيق الحقيقة ونقل معاناة الإنسان. من بين هذه الشخصيات يقف أيمن العتوم كمنارة أدبية وشاهد عيان على أحلك الفترات في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط.

من هو أيمن العتوم؟ رحلة من الأكاديمية إلى أدب الشهادة

ولد الروائي الأردني أيمن العتوم عام 1972، ونشأ في بيئة أكاديمية رفيعة المستوى حيث حصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي. لكن مساره الأكاديمي التقليدي لم يكن يخفي وراءه الروح المتمردة التي ستقوده لاحقاً إلى تجربة غيرت مجرى حياته بالكامل.

في أوائل الألفية الجديدة، اتخذ العتوم قراراً جريئاً بالسفر إلى سوريا للعمل كمدرس في الجامعات السورية. هذا القرار البسيط في ظاهره كان بداية رحلة مؤلمة ستحوله من أكاديمي هادئ إلى صوت مدوي يصرخ بوجه الظلم والاستبداد.

التجربة القاسية: عندما يصبح الكاتب شاهداً على التاريخ

خلال إقامته في سوريا، وجد العتوم نفسه في دوامة الأحداث السياسية التي كانت تعصف بالمنطقة. تم اعتقاله من قبل السلطات السورية وزج به في سجن تدمر، ذلك المكان الذي اكتسب سمعة مرعبة كواحد من أقسى السجون في العالم العربي.

في ظلمة الزنزانة وقسوة المعاملة، لم يكن العتوم يعلم أن هذه التجربة المؤلمة ستصبح المادة الخام لعمل أدبي سيهز الضمير العالمي. فالألم الذي عاشه والشهادات التي سمعها من زملائه المعتقلين أصبحت بذوراً لعمل أدبي استثنائي.

“يسمعون حسيسها”: عندما يتحول الألم إلى فن

بعد الإفراج عنه وعودته إلى الأردن، حمل العتوم معه حمولة ثقيلة من الذكريات والشهادات. كان أمامه خيار أن يطوي صفحة هذه التجربة المؤلمة ويعود إلى حياته الأكاديمية الهادئة، لكنه اختار طريقاً أصعب وأنبل.

في عام 2016، صدرت روايته الأشهر “يسمعون حسيسها“، التي تحكي بصراحة مؤلمة عن تجربة الاعتقال في السجون السورية. العنوان مستوحى من آية قرآنية تصف أصوات جهنم، وهو اختيار لا يخلو من رمزية عميقة تعكس جحيم السجون التي عاشها الكاتب ورفاقه.

ما يميز رواية “يسمعون حسيسها”

الجانبالتفصيل
الأسلوب السرديمزج بين الشهادة التاريخية والتقنيات الروائية المتقدمة
اللغةبساطة تخدم المضمون مع عمق شاعري في الوصف
البنية الزمنيةتداخل الأزمنة لإظهار استمرارية المعاناة
الشخصياتشخصيات حقيقية بأسماء مستعارة لحمايتها

أدب السجون: تقليد عريق في الأدب العربي

لا يمكن فهم إنجاز العتوم دون وضعه في سياقه الأدبي الأوسع. فأدب السجون في التراث العربي له جذور عميقة تمتد من “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري وصولاً إلى أعمال معاصرة كـ”الوشم” لعبد الرحمن مجيد الربيعي و”شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف.

غير أن ما يميز تجربة العتوم هو توقيتها الحساس وصدقها المؤلم. فهو لم يكتب عن السجن من منظور أكاديمي أو تخيلي، بل عاش التجربة بكل تفاصيلها المؤلمة ونقلها بأمانة شديدة.

تأثير العمل على المشهد الثقافي العربي

منذ صدورها، حققت رواية “يسمعون حسيسها” نجاحاً واسعاً وتأثيراً عميقاً على عدة مستويات:

على المستوى الأدبي: أثبتت الرواية أن أدب الشهادة يمكن أن يكون فناً رفيعاً دون التضحية بالصدق والأمانة التاريخية. كما أنها أعادت الاهتمام بأدب السجون كجنس أدبي مهم في المشهد الأدبي العربي.

على المستوى الاجتماعي: فتحت الرواية نقاشاً واسعاً حول قضايا حقوق الإنسان في المنطقة العربية. لم تعد معاناة المعتقلين السوريين مجرد أرقام في تقارير المنظمات الحقوقية، بل أصبحت قصصاً إنسانية مؤثرة يتفاعل معها القراء بشكل مباشر.

على المستوى السياسي: رغم أن العتوم يؤكد دائماً على أن عمله أدبي وليس سياسياً، إلا أن الرواية أصبحت وثيقة تاريخية مهمة تفضح ممارسات القمع في سجون المنطقة.

الكاتب كصوت للمظلومين

ما يجعل تجربة أيمن العتوم استثنائية ليس فقط جودة عمله الأدبي، بل التزامه الأخلاقي بنقل أصوات من لا صوت لهم. في عالم يميل فيه الكثيرون إلى النسيان أو التجاهل، اختار العتوم أن يكون ذاكرة حية للمعاناة الإنسانية.

هذا الالتزام لم يأت بلا ثمن. فالكاتب تعرض لمضايقات وتهديدات، كما أن عمله منع في عدة دول عربية. لكن هذا لم يثنه عن مواصلة رسالته في توثيق الحقيقة والدفاع عن الكرامة الإنسانية.

التقنيات السردية في خدمة الرسالة الإنسانية

من الناحية الفنية، تمكن العتوم من تطوير أسلوب سردي متميز يجمع بين عدة تقنيات:

السرد بضمير المتكلم: اختار العتوم أن يروي قصته بضمير المتكلم، مما يضفي على النص مصداقية وحميمية خاصة. القارئ لا يقرأ عن التجربة فحسب، بل يعيشها معه.

التداخل الزمني: استخدم الكاتب تقنية الاسترجاع والاستباق بمهارة عالية، مما يخلق إيقاعاً سردياً متوتراً يحاكي التوتر النفسي للمعتقل.

الرمزية الدقيقة: اللجوء إلى الرمز والاستعارة لم يكن مجرد زخرفة أدبية، بل ضرورة للتعبير عن المعاناة التي تتجاوز حدود اللغة العادية.

أصداء عالمية لصوت محلي

رغم أن “يسمعون حسيسها” تحكي تجربة خاصة بالسياق السوري، إلا أن صداها تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية. ترجمت الرواية إلى عدة لغات، وحازت على اهتمام الأوساط الأكاديمية والثقافية في أوروبا وأمريكا.

هذا النجاح العالمي يؤكد أن الأدب الحقيقي هو الذي ينطلق من التجربة المحلية الصادقة ليصل إلى الإنسانية الكونية. فمعاناة معتقل في سجن تدمر تتحدث إلى كل إنسان يؤمن بالكرامة والحرية.

الأثر على الجيل الجديد من الكتاب

تجربة أيمن العتوم لم تؤثر فقط على القراء، بل ألهمت جيلاً جديداً من الكتاب العرب الذين وجدوا في عمله نموذجاً للكاتب الملتزم. كما أنها فتحت الباب أمام المزيد من أعمال أدب الشهادة التي تتناول قضايا حقوق الإنسان في المنطقة.

تحديات وآفاق مستقبلية

يواجه أدب المقاومة وأدب الشهادة تحديات عديدة في عصرنا الحالي. من هذه التحديات الرقابة والمنع، وتراجع الاهتمام بالقراءة، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على أنماط التلقي الثقافي.

رغم هذه التحديات، تبقى تجربة العتوم مؤشراً مهماً على أن الأدب الجاد والملتزم يجد طريقه دائماً إلى قلوب القراء. كما أن النجاح الذي حققته روايته يثبت أن هناك جمهوراً يتعطش للأعمال الصادقة والمؤثرة.

خاتمة: صوت لا يُكتم

في النهاية، تبقى قصة أيمن العتوم أكبر من مجرد سيرة كاتب أو تحليل لعمل أدبي. إنها قصة الإنسان الذي رفض أن يصمت أمام الظلم، واختار أن يحول معاناته الشخصية إلى رسالة إنسانية عامة.

من خلال “يسمعون حسيسها” وأعماله الأخرى، تمكن العتوم من إثبات أن الأدب ليس مجرد ترف فكري، بل سلاح قوي في مواجهة الظلم والقهر. وأن الكاتب الحقيقي هو من يتحمل مسؤولية نقل صوت المظلومين، حتى لو كلفه ذلك الكثير من التضحيات.

اليوم، بينما تستمر المعاناة في سجون المنطقة، يبقى صوت أيمن العتوم شاهداً على أن الحقيقة لا تموت، وأن الكلمة الصادقة أقوى من القضبان والجدران. وأن الأدب، في أرقى صوره، هو ذاكرة الشعوب وضمير الإنسانية.