في زوايا الذاكرة العربية، حيث تتراكم حكمة الأجداد كطبقات من التراب الذهبي، يطلّ علينا مثل قديم يحمل في جوفه معاني عميقة: «بعضُ الجَدْبِ أمْرَأُ للهزيل». هذه الكلمات ليست مجرد عبارة تُردد، بل هي مرآة تعكس طبيعة الذات البشرية وميلها نحو طغيان النفس عندما تغمرها النعم بعد طول حرمان.
المحتويات
حكمة الأجداد في مرآة الزمن
المثل يُضرب لمن لا يحسن احتمال الغنى، فإذا ما جاءته النعمة بعد فقر، طغى وتجبّر ونسي أصله. إنها ظاهرة إنسانية قديمة قدم الوجود نفسه، حيث تنقلب الموازين في القلب، ويصبح من كان بالأمس يشكو الحاجة، اليوم متكبرًا لا يعرف معروفًا.
الجدب هنا يرمز إلى القلة والشدة، بينما الهزيل هو الضعيف الذي لم تتعود نفسه على الوفرة. فعندما يأتيه الخير فجأة، لا تستطيع روحه أن تحتمله بتوازن، فيطغى ويتجاوز الحد.
عندما تصبح النعمة نقمة
ليس كل رخاء نعمة حقيقية، وليس كل ضيق نقمة مطلقة. هذه معادلة روحية دقيقة تحتاج إلى فهم عميق. فالإنسان الذي لم يتهذب بالحكمة والقناعة، يمكن أن يصبح الغنى له سببًا في هلاكه الأخلاقي والروحي.
تأمل معي هذه الحالات:
- الفقير الذي يصبح غنيًا فجأة، فينسى أهله وأصدقاء الشدة
- المحتاج الذي تتحسن أحواله، فيتعالى على من كانوا يساعدونه
- البسيط الذي يرتفع مقامه، فيصبح متكبرًا يزدري الآخرين
هذه الصور ليست خيالية، بل نراها في واقعنا اليومي، تتكرر كأنها سنة كونية لم نتعلم منها بعد.
التواضع بعد الغنى: فن النفس المطمئنة
التواضع بعد الغنى هو الامتحان الأصعب. كثيرون يصبرون على الفقر بكرامة، لكن قليلين من يحتملون الثراء بنفس الكرامة. الغنى يكشف معادن الرجال، وفيه تتجلى حقيقة النفوس.
يقول أحد الحكماء: “الفقر يخفي عيوب الرجل، والغنى يظهرها”. فعندما تملك كل شيء، تظهر حقيقتك العارية من أقنعة الحاجة والضرورة. هل ستختار القناعة رغم الوفرة؟ أم سيجرفك تيار الطغيان؟
دروس من رحلة الحياة
في صفحات الأدب العربي، كثيراً ما نصادف عبارة: القناعة هي الكنز الذي لا يفنى. إنها ليست تسليمًا سلبيًا بالقليل، بل هي حالة من السلام الداخلي حيث لا يستطيع الكثير أن يطغيك، ولا القليل أن يكسرك.
القناعة تعني:
- أن تعرف قيمة ما تملك دون أن تستعبدك رغبة الامتلاك
- أن تتذكر أصلك مهما ارتفع مقامك
- أن تحفظ إنسانيتك في وجه إغراءات القوة والمال
الفقر كمعلم صامت
من المفارقات الجميلة أن الفقر قد يكون نعمة مقنّعة. فهو يعلّم الصبر، ويهذّب النفس، ويجعل القلب أكثر تعاطفًا مع الآخرين. بينما الغنى المفاجئ، دون تربية روحية، قد يحول الإنسان إلى وحش لا يعرف الرحمة.
لذا، فإن “بعض الجدب” – أي بعض القلة والشدة – قد يكون أنفع لمن لا يحسن حمل النعمة. إنه كالدواء المرّ الذي يحفظ الجسد من التخمة والمرض.
كيف نحمي أنفسنا من طغيان النفس؟
السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نعيش التوازن في زمن يغرينا بالمزيد دائمًا؟ الإجابة تكمن في التربية الروحية المستمرة:
أولًا، تذكّر دائمًا أن كل نعمة هي أمانة واختبار، وليست حقًا مطلقًا. ثانيًا، احتفظ بصلتك مع ذاتك البسيطة، تلك التي لا تحتاج إلى كثير لتكون سعيدة. ثالثًا، مارس الامتنان اليومي، فهو الترياق ضد سم الطغيان.
خاتمة: حين تصبح القلة كفاية
في نهاية هذه الرحلة التأملية، نعود إلى جوهر الحكمة العربية: النفس التي لم تتهذب بالقناعة، ستكون النعمة لها شقاء. بينما النفس المطمئنة، تجد في القليل كفاية، وفي الكثير مسؤولية.
لنتعلم من أجدادنا أن الحياة ليست في الامتلاك، بل في حسن التدبير. وأن بعض الجدب قد يكون رحمة لمن لا يحسن احتمال الخصب. فليست العبرة بما نملك، بل بكيف نحمل ما نملك دون أن يحملنا.

