هناك قصص تُكتب بمداد الألم، وأخرى تُروى بدموع الذاكرة. لكن حكاية الأميرة بديعة بنت علي تجمع بين المأساة والصمود، بين سقوط عرش وبقاء شاهدة على زمنٍ غابر. في التاسع من مايو عام 2020، رحلت آخر ناجية من العائلة المالكة العراقية عن عمر ناهز المئة عام، تاركةً خلفها إرثاً ثقيلاً من الذكريات والحكايات التي حُفرت في جدران التاريخ العربي.
المحتويات
من دمشق إلى بغداد: نشأة أميرة في عصر التغيرات
ولدت الأميرة بديعة عام 1920 في دمشق، حين كانت المنطقة العربية تشهد ولادة جديدة بعد سقوط الدولة العثمانية. قضت طفولتها متنقلة بين مكة المكرمة والأردن، قبل أن تستقر في بغداد عام 1924 بعد تأسيس المملكة الهاشمية في العراق على يد الملك فيصل الأول.
كانت ابنة الملك علي بن الحسين، وشقيقة الأمير عبد الإله الوصي على العرش العراقي، وخالة آخر ملوك العراق فيصل الثاني. نشأت في كنف عائلة حاكمة حملت على عاتقها مسؤولية بناء دولة جديدة من رماد الإمبراطورية العثمانية المنهارة.
حياة القصور: بساطة وسط الترف
تحدثت الأميرة في مذكراتها عن حياة العائلة المالكة العراقية بصراحة نادرة. إذ أكدت أن الواقع كان مختلفاً تماماً عن الصورة التي رُسمت لاحقاً. عاشت الأسرة الحاكمة حياة متواضعة نسبياً. حيث سكن الملك فيصل الأول في قصر الحرم العثماني القديم قبل بناء قصر الحارثية وسط بغداد.
راتب والدها كنائب للملك لم يتجاوز 250 ديناراً عراقياً في عشرينيات القرن الماضي. هذا المبلغ لم يكن كافياً لإعالة عائلته والحاشية التي اختارت المنفى معهم من الحجاز. لذلك منحه شقيقه مزرعة النعمانية على نهر دجلة كهدية لمساعدته مالياً. هذه التفاصيل تكشف عن واقع اقتصادي صعب عاشته العائلة المالكة، بعيداً عن التصورات النمطية عن حياة الترف المطلق.
مجزرة قصر الرحاب: ليلة سقطت فيها الأحلام
في الرابع عشر من يوليو عام 1958، شهد العراق انقلاباً عسكرياً دموياً قلب موازين الحكم رأساً على عقب. بينما كانت العائلة المالكة العراقية تستعد ليوم عادي، اقتحم مجموعة من الضباط القوميين قصر الرحاب في بغداد. ارتكبوا مجزرة راح ضحيتها الملك فيصل الثاني، والأمير عبد الإله الوصي على العرش، وجميع أفراد العائلة الموجودين في القصر.
كان غياب الأميرة بديعة عن القصر تلك الليلة هو ما أنقذ حياتها. بينما سقط أقاربها واحداً تلو الآخر، نجت هي بأعجوبة لتصبح الشاهدة الوحيدة على نهاية حقبة كاملة من تاريخ العراق. هذه اللحظة الفاصلة حولتها من أميرة تعيش في قصور فخمة إلى لاجئة تبحث عن ملاذ آمن.
رحلة المنفى: من بغداد إلى لندن
بعد سقوط الملكية في العراق مباشرة، لجأت الأميرة بديعة وزوجها الشريف الحسين بن علي إلى السفارة السعودية في بغداد. في لحظات مليئة بالرعب والخوف، رتبت السفارة خروجهما بطائرة إلى القاهرة برفقة أبنائهم الثلاثة: علي ومحمد وعبد الله.
قضت الأسرة بعض الوقت في مصر قبل الانتقال إلى سويسرا. ثم استقرت أخيراً في المملكة المتحدة حيث أمضت الأميرة بقية حياتها. تنكّر لها كثيرون ممن كانوا يحيطون بالعائلة المالكة، حتى السفارات البريطانية ماطلت في منحهم تأشيرات الدخول. هذه التجربة القاسية علمتها أن الولاء السياسي غالباً ما يتبخر مع زوال السلطة.
“وريثة العروش”: ذاكرة مكتوبة لا تُنسى
في عام 2002، أصدرت الأميرة بديعة مذكراتها تحت عنوان “وريثة العروش“، وهو كتاب وثّق تجربتها الفريدة وحياة العائلة المالكة العراقية بكل تفاصيلها. في هذا العمل الأدبي التاريخي، سردت ذكرياتها عن حرب فلسطين عام 1948 حين عملت ممرضة مع الجيش العراقي، وهي التجربة الوحيدة لها في العمل العام.
كشفت في مذكراتها عن تفاصيل حساسة، منها اعتراضها على قرارات الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار في فلسطين، وحثها للملك عبد الله ملك الأردن على عدم الاستجابة لها. كذلك انتقدت بقاء العراق في حلف بغداد بعد العدوان الثلاثي على مصر، معتبرةً ذلك من الأخطاء الكبرى لرئيس الوزراء نوري السعيد.
العلاقة المعقدة مع بريطانيا
كانت سياسة العائلة المالكة العراقية تتسم بعلاقة معقدة مع بريطانيا. رغم أن الهاشميين عموماً كانوا موالين للإنجليز، إلا أن الأميرة بديعة أكدت في مذكراتها أن أفراد الأسرة كانوا يشعرون بخيبة أمل عميقة من الإنجليز الذين خدعوهم وقسموا الدول العربية بناءً على اتفاقات سايكس بيكو.
حاول بعض أفراد العائلة الخروج عن هذه السياسة. فالملك غازي بن فيصل أعلن اعتراضه على سياسات بريطانيا وحاول التواصل مع الألمان. هذا التوجه المخالف للسياسة العامة للهاشميين كان أحد الأسباب التي أدت لاحقاً إلى الانقلابات التي جرت عليهم في العراق والأردن.
تحت عدسة البرلمان والرقابة
من الجوانب المثيرة التي كشفتها الأميرة بديعة هي الرقابة البرلمانية غير المعتادة على شؤون العائلة المالكة. ففي عام 1935، أعد ياسين الهاشمي رئيس الوزراء العراقي قانوناً يحدد من هم أفراد الأسرة المالكة الهاشمية. مما أدى إلى عدم اعتبار زوج الأميرة بديعة من العائلة المالكة نظراً لانتمائه للفرع الشريفي الذي غادر الحجاز إلى مصر.
كذلك اعترض البرلمان على صرف تكاليف مرافقي الملكة عالية أم الملك فيصل الثاني عند عودتها من لندن بعد علاج طبي، رغم أن حالتها الصحية كانت خطيرة وتطلبت وجود طبيبين لمتابعتها. حتى أمانة بغداد رفضت رصف شارع صغير بين جناحي قصر الرحاب. هذه الأمثلة تعكس طبيعة العلاقة المعقدة بين العائلة المالكة والمؤسسات الحكومية.
الموقف من عقوبة الإعدام: إنسانية وسط السياسة
أكدت الأميرة بديعة أن عائلتها لم تكن من محبي عقوبات الإعدام. روت كيف تأسف والدها على تنفيذ حكم الإعدام بحق اثنين من العسكر الأتراك، وحاول إنقاذهما بالإيحاء لهما بتغيير أقوالهما، لكنه لم ينجح وظل خيالهما يؤرقه حتى آخر أيامه.
أما شقيقها عبد الإله الوصي على العرش، فكان كثير التردد في المصادقة على أحكام الإعدام، حتى تلك التي أصدرها القضاء بحق مجرمين. الضغوط الشعبية هي ما دفعته أخيراً للتصديق على بعض هذه الأحكام. لكنه ظل عصبياً مترددً، خاصة حين تعلق الأمر بإعدام أربعة ضباط بعد فشل انقلاب رشيد عالي الكيلاني.
شهادات على الواقع الاجتماعي للقصور
في مقابلة تلفزيونية عام 2011، تحدثت الأميرة بديعة بصراحة عن الحياة الاجتماعية داخل القصور. نفت الشائعات التي انتشرت حول علاقات نسائية للملك فيصل الأول. لكنها اعترفت بأن الملك غازي كان صاحب مغامرات، وأنه كان مخموراً عندما وقع الحادث المروري الذي أودى بحياته.
كشفت أيضاً أن الخمور كانت تُقدم للضيوف في قصر الملك فيصل الأول بناءً على توصية مستشاريه. بينما حرص عبد الإله الوصي على العرش على عدم شرب الخمر وتجنيب ابن أخته فيصل الثاني كل ما يمكن أن يؤدي به إلى المجون. هذه التفاصيل الدقيقة تمنحنا صورة أكثر واقعية عن الحياة الشخصية للعائلة المالكة بعيداً عن الأساطير والتهويلات.
إرث مثقل بالذاكرة والألم
عاشت الأميرة بديعة حياة استثنائية امتدت قرناً كاملاً. فقد شهدت طوال هاته السنوات تحولات جذرية في المنطقة العربية. من مولدها في دمشق عام 1920 إلى رحيلها في لندن عام 2020، حملت في قلبها ذاكرة مملكة بأكملها سقطت في ليلة واحدة.
رفضت الصمت واختارت توثيق تجربتها في كتاب أصبح مرجعاً تاريخياً مهماً لفهم تلك الحقبة المضطربة من تاريخ العراق. كانت صوتاً لمن سقطوا في مجزرة قصر الرحاب، وشاهدة على عصر انتهى بدماء وأحلام محطمة.
دروس من زمن الملوك
حكاية الأميرة بديعة تعلمنا أن التاريخ ليس مجرد تواريخ وأحداث، بل هو قصص إنسانية مليئة بالألم والأمل، بالانكسار والصمود. عاشت طفولة أميرة وشهدت سقوط عرش، لكنها احتفظت بكرامتها وروت شهادتها دون تزييف أو مبالغة.
ظلت حتى آخر أيامها متمسكة بهويتها كآخر ناجية من العائلة المالكة العراقية، رافضةً أن يُنسى ما حدث. في عالم سريع النسيان، كانت ذاكرتها سجلاً حياً لحقبة كاملة من تاريخنا العربي.
الخاتمة: نجمة أفلت في منفى بعيد
في مايو 2020، طُويت آخر صفحات حكاية العائلة المالكة العراقية برحيل الأميرة بديعة. عاشت مئة عام حافلة، نجت من مذبحة أبادت عائلتها، وعاشت في المنفى سبعة عقود كاملة، لكنها لم تنسَ يوماً من أين جاءت.
تركت لنا إرثاً من المذكرات والشهادات التي تضيء جوانب مظلمة من تاريخ المنطقة، وتذكرنا بأن وراء كل حدث سياسي كبير، هناك أرواح بشرية عاشت الألم والفقد. رحلت الأميرة بديعة، لكن قصتها ستظل حية في صفحات التاريخ، شاهدة على زمن غابر وشاهدة على قسوة السياسة حين تصطدم بالإنسانية.