صورة يحيى السنوار يرتدي شارة فلسطينية، وخلفه دخان وأجواء حربية.

يحيى السنوار: رحلة كفاح وإلهام من السجن إلى القيادة

في عالم يموج بالتحديات والصراعات، تنهض شخصيات استثنائية لا تعرف الانكسار، بل على العكس، تصنع التاريخ بإرادتها. من بين هؤلاء الأبطال، يبرز اسم يحيى السنوار، ذلك الاسم الذي دوّى في الأفق رمزًا للصمود والعزيمة. منذ بداياته في أزقة مخيم خان يونس، رسم السنوار ملامح قائد فريد لا يخشى الصعاب. رغم نشأته المتواضعة، لم تكن تلك البيئة عائقًا، بل كانت الشرارة الأولى لانطلاقته.

في الواقع، اختار طريق النضال بإرادة لا تلين، فواجه التحديات واحدًا تلو الآخر. وبمرور الوقت، أثبت أن الإرادة الصلبة قادرة على صنع المستحيل. وهكذا، خطّ السنوار طريقه بثبات وعزيمة، ليصبح أيقونة نضالية تُلهم الأجيال. إن قصته ليست فقط حكاية رجل، بل هي شهادة على أن الكفاح من أجل الحرية يمكن أن يولد من رحم المعاناة.

البدايات المتواضعة: جذور التحدي

وُلد يحيى السنوار عام 1962 في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة، في كنف أسرة فلسطينية لاجئة هُجِّرت قسرًا من قريتها الأصلية عسقلان عام 1948. لم تكن هذه البداية المتواضعة مجرد محطة عابرة في حياته، بل شكلت النواة التي صاغت شخصيته ورسّخت قناعاته منذ الصغر.

في قلب المخيم، واجه السنوار قسوة الحياة اليومية. ورغم كل الصعوبات، استطاع أن يستمد قوته من والده الذي عمل بجد في الزراعة ليؤمّن لقمة العيش، ومن والدته التي ربّت أبناءها الثمانية بحبٍ لا ينضب وانضباط صارم. ومن خلال هذه التجربة، لم يتعلم فقط معنى الصبر، بل بدأ يدرك مبكرًا أن الكرامة لا تُوهب، بل تُنتزع.

تدريجيًا، تحولت بذور الغضب الكامن في داخله إلى وعي نضالي عميق، ووجد في المقاومة طريقًا طبيعيًا للرد على الظلم والتشريد. هكذا، بدأت ملامح القائد تظهر مبكرًا في شخصيته، مدفوعة بإرادة لا تلين، وأمل لا يخبو.

التعليم كنافذة للتغيير

بالرغم من الظروف القاسية التي عاشها يحيى السنوار في مخيم اللاجئين، لم يسمح لليأس أن يتسلل إلى قلبه. أدرك منذ صغره أن التعليم هو السلاح الأقوى في وجه الظلم والاحتلال، فالتحق بالمدارس المحلية متحديًا الفقر وقلة الإمكانيات، ليُظهر نبوغًا لافتًا وتميزًا أكاديميًا استثنائيًا. تفوّقه هذا لم يكن وليد صدفة، بل نتيجة عزيمة حديدية وإصرار على النجاح رغم كل العقبات.

وفي محطة حاسمة من حياته، قرر متابعة دراسته الجامعية في تخصص اللغة العربية بالجامعة الإسلامية في غزة، وهي الخطوة التي شكّلت منعطفًا حاسمًا في مسيرته. هناك، لم يكتف بالمقاعد الدراسية، بل انخرط بقوة في الأنشطة الطلابية والثقافية، حيث بدأت تتبلور رؤيته السياسية وتتشكل ملامح شخصيته القيادية. لقد كان فاعلًا لا متفرجًا، ومبادرًا لا مترددًا، مما ساعده على تطوير مهاراته الخطابية والتنظيمية، وصقل وعيه الوطني والفكري. في تلك المرحلة، لم يكن السنوار يبني مستقبله العلمي فحسب، بل كان يؤسس أيضًا لرحلته النضالية التي ستترك بصمتها في تاريخ فلسطين.

السجن: جامعة الحياة الحقيقية

في عام 1988، اعتقلت السلطات الإسرائيلية السنوار بتهمة تأسيس الجناح العسكري لحركة حماس والتخطيط لعمليات مقاومة. بدلاً من أن تكسر هذه التجربة إرادته، تحولت السجن إلى جامعة حقيقية للتعلم والنمو.

دروس من وراء القضبان

المجالالدروس المستفادة
القيادةتعلم إدارة المجموعات في ظروف صعبة
التخطيطتطوير مهارات التفكير الاستراتيجي
الصبرممارسة ضبط النفس والتحمل
التعلمإتقان لغات جديدة ودراسة التاريخ

خلال 22 عاماً قضاها في السجن، لم يضيع السنوار وقته في اليأس أو الندب. بدلاً من ذلك، استثمر كل دقيقة في التعلم والتطوير الذاتي. تعلم اللغة العبرية بطلاقة، فتمكن من فهم خصومه بشكل أعمق، كما درس التاريخ والفلسفة والعلوم السياسية.

الإفراج: عودة المحارب

عام 2011، تم الإفراج عن السنوار ضمن صفقة تبادل الأسرى مع جلعاد شاليط. هذه اللحظة لم تكن مجرد استعادة للحرية الشخصية، بل كانت عودة قائد مُحنّك بخبرات ومعارف جديدة إلى ساحة العمل السياسي والمقاوم.

“السجن لم يكسرني، بل صنعني. كل يوم قضيته خلف القضبان كان استثماراً في المستقبل” – يحيى السنوار

الصعود إلى القيادة

بعد الإفراج، بدأ السنوار رحلة جديدة في العمل التنظيمي داخل حركة حماس. بفضل خبرته الطويلة وحنكته السياسية، تدرج في المناصب القيادية حتى وصل إلى قيادة الحركة في قطاع غزة عام 2017.

خصائص القيادة الاستثنائية

قياس القيادة الحقيقية لا يكون بالمنصب فحسب، بل بالقدرة على التأثير والإلهام. السنوار يجسد عدة خصائص مميزة للقائد الاستثنائي:

الرؤية الواضحة: يمتلك رؤية واضحة لمستقبل الشعب الفلسطيني وطرق تحقيق أهدافه المشروعة.

الشجاعة في اتخاذ القرارات الصعبة: لا يتردد في اتخاذ قرارات قد تبدو محفوفة بالمخاطر إذا كانت تخدم المصلحة العامة.

القدرة على التكيف: أظهر مرونة في التعامل مع المتغيرات السياسية والعسكرية المختلفة.

الحفاظ على المبادئ: رغم كل التحديات، لم يتنازل عن مبادئه الأساسية في مقاومة الاحتلال.

التأثير على المقاومة الفلسطينية

تحت قيادة السنوار، شهدت المقاومة الفلسطينية تطوراً نوعياً في عدة جوانب. استطاع أن يوازن بين العمل المقاوم والعمل السياسي، مما أكسب حماس احتراماً إقليمياً ودولياً أوسع.

كما ركز على تطوير القدرات الذاتية للمقاومة، سواء في الجانب العسكري أو في بناء المؤسسات المدنية. هذا النهج المتوازن جعل من غزة تحت قيادته نموذجاً للصمود رغم الحصار والضغوط.

الشخصية الإنسانية وراء القائد

بعيداً عن الأضواء السياسية والإعلامية، يحتفظ السنوار بجوانب إنسانية عميقة. يصفه زملاؤه بالبساطة والتواضع، رغم المكانة العالية التي وصل إليها. كما اشتهر بحرصه على التواصل المباشر مع الناس العاديين وفهم معاناتهم اليومية.

قيم شخصية ملهمة

  • الإخلاص: التفاني المطلق في خدمة قضيته وشعبه
  • الصدق: الصراحة في التعامل مع الحلفاء والخصوم على حد سواء
  • العدالة: الحرص على تطبيق مبادئ العدالة في كل قراراته
  • التضحية: الاستعداد الدائم للتضحية بالمصالح الشخصية من أجل المصلحة العامة

الإرث والدروس المستفادة

تقدم قصة يحيى السنوار دروساً قيمة لكل من يسعى لتحقيق التغيير الإيجابي في مجتمعه. لا تقتصر هذه الدروس على الجانب السياسي، بل تمتد لتشمل جوانب الحياة المختلفة:

التعلم المستمر: حتى في أصعب الظروف، يمكن للإنسان أن يتعلم وينمو. السجن بالنسبة للسنوار لم يكن نهاية المطاف، بل بداية رحلة تعليمية جديدة.

الصبر الاستراتيجي: يتطلب النجاح الحقيقي صبراً طويل المدى ورؤية استراتيجية واضحة. 22 عاماً في السجن لم تذهب هباءً، بل كانت استثماراً في المستقبل.

القيادة بالقدوة: القائد الحقيقي هو من يقود بالمثال، وليس بالكلمات فقط. السنوار عاش ما آمن به وضحى من أجله.

التوازن بين المثالية والواقعية: يتطلب النجاح في تحقيق الأهداف الكبيرة توازناً دقيقاً بين التمسك بالمبادئ والتكيف مع الواقع.

رسالة للأجيال القادمة

تجسد قصة يحيى السنوار قدرة الإنسان على تجاوز أقسى الظروف عندما يمتلك الإرادة ويؤمن بعدالة قضيته. نشأ في مخيم اللاجئين، وقاد حركة مقاومة، وتحمل السجن ليصل إلى موقع اتخاذ قرارات مصيرية، مجسداً بذلك النضال الحقيقي والتضحية من أجل المبادئ.

يواجه الشباب تحديات كثيرة في حياتهم، وتحمل قصة السنوار لهم رسالة أمل واضحة: يمكن تحويل الصعوبات الحالية إلى بذور نجاح في المستقبل، بشرط أن لا يستسلموا ويواصلوا التعلم والنمو مهما بلغت قسوة الظروف. يبحث العالم اليوم عن قادة حقيقيين، وتؤكد سيرة هذا الرجل أن القيادة الأصيلة تنبع من التجربة والمعاناة المشتركة مع الشعب، لا من الألقاب والمناصب.

يحيى السنوار يكتب فصولاً جديدة من قصته، ويُلهم كل من يرى أن الحرية والعدالة حقوق لا يمكن المساومة عليها مهما بلغ الثمن.