في قلب صحراء دبي، حيث تتعانق الرمال مع السماء، نشأت واحدة من أروع قصص النجاح في العالم العربي. قصة شاب إماراتي طموح بدأ من الصفر ليصبح أحد أهم رجال الأعمال في المنطقة ومؤسس واحدة من أكبر شركات التطوير العقاري في العالم. محمد العبار، مؤسس إعمار العقارية والعقل المدبر وراء برج خليفة وغيره من المعالم الشهيرة، لم تكن رحلته سهلة، لكنها كانت ملهمة بكل المقاييس.
المحتويات
البدايات المتواضعة: نشأة محمد العبار
ولد محمد بن علي العبار في دبي عام 1956 في أسرة متواضعة الحال. كان والده بحّاراً يعمل في تجارة اللؤلؤ، وهي مهنة كانت شائعة قبل اكتشاف النفط في المنطقة. في سن مبكرة، اضطر محمد العبار للعمل مساعداً لوالده ثم كبائع متجول في أسواق دبي لمساعدة أسرته في تأمين لقمة العيش.
لم تكن الظروف الاقتصادية مواتية في تلك الفترة، لكن هذه التجارب المبكرة غرست في العبار قيماً أساسية ستشكل شخصيته اللاحقة: الإصرار، الصبر، والرغبة العارمة في تحسين وضعه وتغيير واقعه. كانت هذه البذرة الأولى في رحلة ستقوده لاحقاً إلى النجاح الاستثنائي.
التعليم: الخطوة الأولى نحو المستقبل
أدرك محمد العبار منذ صغره أهمية التعليم كسبيل للخروج من دائرة الفقر. رغم الظروف الصعبة، استطاع إكمال دراسته الثانوية في دبي، ثم حصل على منحة دراسية للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية.
سافر العبار إلى سياتل في ولاية واشنطن، حيث درس في جامعة سياتل وحصل على شهادة البكالوريوس في الإدارة المالية والاقتصاد. كانت هذه الفترة تشكل نقطة تحول في حياته، حيث تعرف على ثقافة مختلفة واكتسب مهارات ومعارف جديدة في عالم المال والأعمال.
بداية المسيرة المهنية
عاد محمد العبار إلى وطنه الإمارات مسلحاً بالمعرفة والطموح، وبدأ مسيرته المهنية في البنك المركزي الإماراتي. لكن شخصيته الريادية لم تكن مناسبة للعمل الحكومي التقليدي. كان يطمح إلى بناء شيء خاص به، مشروع يترك من خلاله بصمة في عالم الأعمال.
في عام 1992، أصبح العبار مديراً عاماً لدائرة التنمية الاقتصادية في دبي، وهي الفترة التي بدأ فيها بلورة رؤيته للتطوير العقاري المستقبلي. كان العبار يرى في دبي إمكانات هائلة للنمو والتطور، لكن الأمر كان يحتاج إلى رؤية جريئة وتنفيذ دقيق.
تأسيس إعمار العقارية: نقطة التحول الكبرى
في عام 1997، جاء التحول الكبير في حياة محمد العبار عندما أسس شركة إعمار العقارية برأسمال أولي بلغ مليار درهم إماراتي. كانت الفكرة الأساسية للشركة هي تطوير مشاريع سكنية راقية في دبي تلبي احتياجات الطبقة المتوسطة والعليا، فضلاً عن جذب المستثمرين الأجانب.
بدأت إعمار العقارية بمشروع “الينابيع” وهو مجمع سكني راقٍ في دبي، ثم توالت المشاريع: “المروج”، “تلال الإمارات”، “المراعي”، وغيرها. تميزت هذه المشاريع بجودتها العالية وتصاميمها المبتكرة، مما جعلها محط أنظار المستثمرين والمشترين على حد سواء.
نجح العبار في إدراج إعمار العقارية في سوق دبي المالي عام 2000، وشهدت أسهم الشركة إقبالاً كبيراً من المستثمرين. كانت هذه الخطوة بمثابة انطلاقة جديدة للشركة، مكنتها من توسيع نطاق عملياتها وطرح مشاريع أكثر طموحاً.
برج خليفة: تحقيق المستحيل
إذا كان هناك مشروع واحد يجسد طموح محمد العبار وإعمار العقارية، فهو بلا شك برج خليفة، أطول مبنى في العالم. عندما أعلن العبار عن خطته لبناء برج يتجاوز ارتفاعه 828 متراً، اعتقد الكثيرون أن الفكرة مجرد حلم لا يمكن تحقيقه، خاصة في ظل الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم عام 2008.
لكن إصرار العبار ورؤيته جعلا المستحيل ممكناً. استمر العمل في المشروع رغم كل التحديات، وفي 4 يناير 2010، تم افتتاح برج خليفة رسمياً ليصبح أيقونة معمارية عالمية وشاهداً على نجاح محمد العبار وفريق عمله.
لا يقتصر برج خليفة على كونه مجرد مبنى شاهق، بل هو جزء من مشروع متكامل يضم “دبي مول”، أحد أكبر مراكز التسوق في العالم، وبحيرة دبي، والعديد من المرافق السياحية والترفيهية الأخرى. أصبح هذا المشروع وجهة سياحية رئيسية في دبي، واستقطب ملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم.
التوسع العالمي: إعمار خارج الإمارات
لم يكتف محمد العبار بالنجاح المحلي، بل سعى إلى توسيع نشاط إعمار العقارية على المستوى العالمي. دخلت الشركة أسواقاً جديدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا وأوروبا، وأطلقت مشاريع ضخمة في مصر والمغرب وتركيا والهند وباكستان وغيرها.
في مصر، أطلقت إعمار مشروع “أب تاون كايرو” و”مراسي” في الساحل الشمالي، وفي المغرب أنشأت شركة فرعية باسم “إعمار المغرب” التي طورت مشاريع سكنية وسياحية في الدار البيضاء ومراكش وطنجة. وفي تركيا، استثمرت الشركة في مشاريع عقارية متنوعة في اسطنبول وأنقرة.
هذا التوسع العالمي عزز مكانة إعمار العقارية كشركة عالمية المستوى، وأكد قدرة محمد العبار على تحويل رؤيته المحلية إلى استراتيجية عالمية ناجحة.
تنويع الاستثمارات: أكثر من مجرد عقارات
أدرك محمد العبار أهمية تنويع الاستثمارات وعدم الاعتماد على قطاع واحد. لذلك، توسعت أنشطة إعمار لتشمل قطاعات أخرى مثل الضيافة والترفيه والتجزئة والخدمات المالية.
أنشأت إعمار شركة “إعمار للضيافة” التي تدير سلسلة من الفنادق الفاخرة، بما في ذلك فندق “أرماني” في برج خليفة، و”العنوان” و”فيدا” وغيرها. كما أسست “إعمار للترفيه” التي تدير مراكز الترفيه والتسوق مثل “دبي أكواريوم” و”حلبة دبي للتزلج” في دبي مول.
في قطاع التجزئة، أنشأ العبار شركة “نون” للتجارة الإلكترونية لمنافسة شركات عالمية مثل أمازون في منطقة الشرق الأوسط. وفي مجال التكنولوجيا، استثمر في شركات ناشئة مختلفة واستحوذ على بعض المنصات الإلكترونية لتعزيز وجوده في هذا القطاع المتنامي.
فلسفة النجاح: دروس من رحلة محمد العبار
خلف كل قصة نجاح كبيرة، هناك فلسفة وقيم أساسية. يمكن استخلاص عدة دروس من رحلة محمد العبار:
- الرؤية والطموح: لم يكتف العبار بما هو موجود، بل سعى دائماً إلى ما هو ممكن. كانت لديه رؤية واضحة لما يمكن أن تكون عليه دبي وشركته، وعمل بجد لتحقيق هذه الرؤية.
- المثابرة والصبر: واجه العبار تحديات كثيرة، لكنه لم يستسلم أبداً. كان يؤمن بأن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد، وأن الثبات على الطريق هو مفتاح تحقيق الأهداف.
- التفكير خارج الصندوق: لم يلتزم العبار بالطرق التقليدية في الأعمال، بل كان دائماً يبحث عن أفكار مبتكرة وحلول إبداعية للتحديات التي تواجهه.
- بناء فريق قوي: يؤمن العبار بأهمية العمل الجماعي وبناء فريق من المحترفين المتميزين. استطاع استقطاب أفضل المواهب للعمل معه وتمكينهم من إطلاق إبداعاتهم.
- الاستثمار في العلاقات: أدرك العبار أهمية العلاقات في عالم الأعمال، سواء مع المستثمرين أو الشركاء أو العملاء. استطاع بناء شبكة واسعة من العلاقات ساعدته على تحقيق النجاح.
محمد العبار: رجل الأعمال والإنسان
رغم نجاحه الكبير، حافظ محمد العبار على تواضعه وبساطته. يُعرف عنه حبه للعمل الخيري والمساهمة في المشاريع التنموية والإنسانية. أسس العديد من المبادرات الخيرية ودعم مشاريع تعليمية وصحية في مختلف أنحاء العالم.
كما يُعرف عن العبار اهتمامه بتمكين الشباب وتشجيعهم على ريادة الأعمال. يشارك بانتظام في فعاليات ومؤتمرات موجهة للشباب، ويقدم لهم النصائح والتوجيهات بناءً على خبرته الطويلة.
إرث محمد العبار: أكثر من مجرد مباني
عندما ننظر إلى إرث محمد العبار اليوم، نجد أنه أكثر من مجرد مجموعة من المباني والمشاريع العقارية. لقد أسهم في تغيير صورة دبي والإمارات في أعين العالم، وساعد في تحويلها من مدينة صحراوية صغيرة إلى وجهة عالمية للسياحة والاستثمار.
أسهمت مشاريع إعمار، وخاصة برج خليفة، في وضع دبي على خريطة العالم وجعلها محط أنظار المستثمرين والسياح من مختلف أنحاء العالم. كما أن النموذج الإداري والتسويقي الذي اتبعه العبار أصبح مصدر إلهام للعديد من رجال الأعمال الشباب في المنطقة.
الدروس المستفادة لرواد الأعمال الطموحين
توفر قصة نجاح محمد العبار مجموعة من الدروس القيمة لرواد الأعمال الطموحين:
- ابدأ من حيث أنت، وليس من حيث تريد أن تكون: بدأ العبار من الصفر، ولم ينتظر الظروف المثالية ليبدأ مشواره.
- استثمر في التعليم والمعرفة: رغم الظروف الصعبة، أدرك العبار أهمية التعليم واستثمر في تطوير معارفه ومهاراته.
- لا تخف من الأفكار الكبيرة: كان برج خليفة فكرة جنونية في وقتها، لكن الإيمان بها والعمل الجاد حولاها إلى واقع.
- تنويع الاستثمارات: لم يعتمد العبار على قطاع واحد، بل نوع استثماراته ليقلل المخاطر ويزيد فرص النجاح.
- الاهتمام برضا العملاء: تميزت مشاريع إعمار بالجودة العالية والاهتمام بأدق التفاصيل، مما أكسبها ثقة العملاء.
الختام
من بائع متجول في أسواق دبي إلى مؤسس إمبراطورية عقارية عالمية، تجسد قصة نجاح محمد العبار الإصرار والطموح والرؤية الثاقبة. لم تكن رحلته سهلة، لكنه استطاع تجاوز كل التحديات بفضل إيمانه بأحلامه وعمله الدؤوب لتحقيقها.
اليوم، يقف برج خليفة شامخاً في سماء دبي، ليس فقط كأطول مبنى في العالم، بل كرمز للإنجاز الإنساني وشاهد على قصة نجاح رجل آمن بأن كل شيء ممكن بالإرادة والعمل والمثابرة.
قصة محمد العبار تذكرنا بأن النجاح ليس وليد الصدفة، بل نتيجة لرؤية واضحة وعمل دؤوب وإصرار لا يلين. مهما كانت بدايتك متواضعة، يمكنك تحقيق أحلامك إذا آمنت بنفسك وعملت بجد لتحقيقها.
استكشف المزيد على موقعنا: